للمرة الأولى تبدو إسرائيل قوّةً "داخلية" في منطقتنا
جهاد الزين
21-01-2014 03:43 PM
لن تكون معادلةُ تحوّلِ إسرائيل الجاريةُ حاليا إلى قوّةٍ نفوذٍ محوريّةٍ في العالم العربي والشرق الأوسط تلجأ إليها تحالفاً وتوازناً قوى ودولُ المنطقة... لن تكون أعجوبةً جيوسياسيةً أكبرَ وأصعبَ منالاً من أعجوبةِ إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 . الذين حقّقوا الأعجوبة الأولى (الأوروبيّون والأميركيّون والحركة الصهيونية) هم الآن على الأرجح في طور تحقيق الأعجوبة الثانية.
طبعا لا يزال تصوّرُ وجودِ قوّةِ فصلٍ إسرائيليّةٍ بقرار من الأمم المتحدة للفصل بين المتنازعين داخل بيروت أو دمشق أو بغداد أو المنامة أو صنعاء... لا تزال فكرة من المخيّلة التامة. لكن من يعلم على مدى الخمسين عاما الآتية كيف ستكون صورة إسرائيل كقوة داخلية في العالم العربي والشرق الأوسط؟
مجرّد تفكير هذا الجيل باحتمال أن تتركّز إسرائيل كقوة "داخلية" في المنطقة سيعني أنها ستكون قوة طليعيّة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى: جيشاً وجامعاتٍ ومصانعَ ومراكزَ تكنولوجيا وسياحة.
كانت النظرية القومية العربية بعد الحرب العالمية الثانية والتي عاشت طويلا تقول ان المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع محكوم بالتفكّك بسبب التكوين الهجين و غير المترابط الآتي من مصادر الهجرة اليهودية إليه.
إذا كانت الحرب الأهلية السورية البادئة نهاية عام 2011 (بعد مشروع ثورة شبابية ديموقراطية موؤودة بالعَسْكرة الإقليمية والدولية) هي عنوانُ انتقالِ دول المشرق العربي إلى التفكّك الداخلي بعد العراق، فالذي حصل هو العكس، عكس النظرية القومية العربية: بدل أن نشهد تفكك المجتمع الإسرائيلي ها نحن نشهد تفكّكَ مجتمعاتِنا على أيدي الطائفيّتين السنّية والشيعيّة. هناك نكتة كان يتبادلها المحيطون بياسر عرفات عن أحد مستشاريه المقيمين معه في فترة اللجوء إلى تونس. فهذا المستشار، وإسمه معروف، كان مكلّفاً من عرفات برصد الإذاعة والصحف الاسرائيلية بحكم كونه يعرف اللغة العِبرية. كان المستشار بعد أن يستمع إلى تفاصيل المشاحنات والنقاشات بين السياسيين الاسرائيليين يدخل على عرفات صباح كل يوم ليقول له: إسرائيل منقسمة بشدة وستقع الحرب الأهلية قريبا بين اليهود.
حصل العكس إذن فاندلع الانهيارُ المشرقي العربي ومن ضمنه شبْهُ انقراضِ المكوّنِ المسيحيِّ من فلسطين والعراق وتلقّيه ضرباتٍ ديموغرافيةً خطرةً في سوريا بعد تعايش وتلازم وتفاعل 1400 سنة ونيّف من "أسلمة" المنطقة. ولا داعي لتذكّرِ انقراضِ المكوّنِ اليهودي داخل مجتمعاتِنا الذي أدّى إليه نشوء الكيان الإسرائيلي.
مقابلَ تضاؤلِ بل مقابلَ تضاحُلِ تنوُّعِنا ونسيجِنا ودولِنا سنشهد على الأرجح بداية موجة من الاعتداد بل الاعتزاز لدى النخبة الإسرائيلية بالتنوع الاجتماعي والقومي لليهود الإسرائيليين! بعدما كانت عنصرية اسرائيل الاقتلاعية للشعب الفلسطيني مصدر خجل لدى العديد من الأوساط اليسارية والليبرالية والثقافية الإسرائيلية هو الآن في طور التضاؤل. أستعيد مقالا للروائي الاسرائيلي آموس أوز عن تجربته مع الوحدة العسكرية التي كان جزءاً منها في مرتفعات الجولان خلال حرب 1973. فقد نقل حوارا فكريا فلسفيا بين الجنود المختبئين في خنادقهم خلال إحدى استراحات المعارك. تعليقُهُ – وهو روائي ناقد للسياسة الإسرائيلية - كان إبداء الإعجاب التالي: لا يمكن أن يحصل حوار ثقافي بهذا المستوى الرفيع بين جنود أي جيش في العالم إلا في الجيش الإسرائيلي؟ أما ظاهرة "المؤرّخين الجدد" الإسرائيليين في الثمانينات والتسعينات التي ظهرت كأكبر محاولة أكاديمية لنسف كل الرواية الرسمية الصهيونية لأحداث عام 1948 فانتهت كما هو معروف بين نقيضين: بني موريس الذي أصبح يكرّر منذ سنوات أن ما حصل عام 1948 من طرد للفلسطينيّين، على بشاعته، كان يجب لا أن يحصل فقط بل أن يكتمل أيضا لما كان سيوفِّر حروبا في المستقبل! وإيلان بابيه الذي ازداد راديكالية في نقده بل خروجه (وطرده في الواقع) من "المؤسّسة" الإسرائيلية. طبعا رغم تحوّلِ المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين في العقد ونيِّف الأخير لا زالت حيوية الحياة الفكرية والأكاديمية تفرز منشقِّين عن الأيديولوجيا السائدة لكن هذا موضوع آخر.
كلمة "داخلي" بالنسبة لمنطقة مثل منطقتنا لديها كل هذا الإرث الثقافي السياسي، بما فيه التّوَهُّمي، عن نفسها هي كلمة جوهرية وشديدة الدلالة. كلُّ مشروع "العودة" التركية بقيادة "حزب العدالة والتنمية" إلى العالم العربي يقوم على فكرة "الداخل والخارج" وأن تركيا هي قوة داخلية أصيلة في المنطقة. كتاب أحمد داوود أوغلو الشهير "العمق الاستراتيجي" يستند إلى هذه الفكرة وإلى فكرة "الجسر" بين الشرق والغرب (التي بدَّدَتْها سابقا في ما يتعلق بدور لبنان الفئويةُ المريضةُ للطبقةُ السياسية اللبنانية). وهذا تُركيّاً أكثر من صحيح بمعزل عن ان إدارة رجب طيِّب أردوغان سرعان ما حوّلت هذه العودة وكأنها "زيارة" طويلة إلى منطقة حرب أهلية فبدت نتائجها كارثية حتى اليوم بما فيه على صورة تركيا الحداثية.
خلاصة الكلام أن إسرائيل هي اليوم بسبب تفكّكِ وهشاشةِ وضحالة الوضع العربي آخذةٌ بالانتقال بعد تاريخ طويل بدأ قبل وبعد عام 1948 من عشيقة محرّمة لبعض الفئات العربية إلى عشيقة سرّية اعتبارا من عام 1993 واليوم إلى عشيقة شبه معلنة لمصالح عربية جدية في زمن التفكك والحرب الأهلية العربية والمسلمة.
سدودُنا، مطاراتُنا، منشآتُنا، نخبُنا مؤسّساتنا، تنوّعُنا، كفاءاتنا، رساميلنا،، بيروقراطياتنا، جيوشُنا تتدمّر أو تهاجر واسرائيل تتحول أكثر فأكثر إلى جزيرة غربية في نمط الحياة ومستواه العلمي والفكري والثقافي والجامعي المتقدم... إلى "سيليكون فاليه" يقصدها صُناع القرار والخبراء ورجال الأعمال من الهند والصين وتركيا والبرازيل وووو....
إذا استمر هذا البَوْن الشاسع لن يكون بعيدا اليوم الذي سيتنافس فيه أبناء المحيط العربي على ضمان الحصول على مقاعد في الجامعات والمعاهد الإسرائيلية.
حيّاكم الله يا زعماء ومؤسّسي وقادة وتُجّار الفتنة السنّية الشيعيّة. قادة الموجة الأخيرة من السقوط إلى الطبقة تحت السفلية من الجحيم (راجع مقالنا السبت 18- 1- 2014 : إسرائيل الدولة الوحيدة المتماسكة في المشرق العربي).
(النهار اللبنانية)