بعيداً عن الانحياز لأيّ من فتح الله غولن ورجب طيب أردوغان، في المعركة الطاحنة بينهما اليوم في تركيا، وفي تفسير أسباب الخلاف الذي ربما نتحدث عنه لاحقاً، فإنّ ما هو أهم يتمثل في التعرف على ما قدمته كلتا التجربتين من نماذج عملاقة، مقارنةً بحالة الجمود والترهل في المجتمعات العربية، حيث الغياب لأي إنجاز كبير أو مشروع ضخم يمثّل نجاحاً لافتاً، سياسياً أو اقتصادياً، كما هي حال تركيا اليوم.
وإذا كانت تجربة أردوغان قد حظيت باهتمام عربي كبير، فإنّ ما قدمته تجربة غولن من نموذج مختلف تماماً، كبير ومهم، في تركيا، حقق نجاحات واقعية، يستحق هو الآخر اهتماماً ودراسة معمّقة، ويمكن تسميته بـ"الإسلام الاجتماعي". هذا فيما يفضّل باحثون أوروبيون إطلاق مصطلح "الكالفيني الجديد" على غولن، لما يطرحه من رؤية إسلامية تحث على التطور الاقتصادي، والاندماج في العولمة، والتصالح مع الحداثة!
ليس ثمّة "وصفة معترف بها" بين أيدينا، تجيب عن سرّ صعود حركة فتح الله غولن وانتشارها ونجاحها في تركيا. إلاّ أنّ هناك "مفاتيح" رئيسة يمكن أن تساعد على تفسير ذلك؛ في مقدمها أنّنا أمام امتداد وتواصل بين هذه الحركة ذات الطبيعة الاجتماعية الإصلاحية والتربوية والدعوية، وبين الحركة النورسية الصوفية (التي تنتسب إلى بديع الزمان النورسي 1877-1960)، ليس فقط على صعيد الأصول الصوفية، بل حتى الأفكار الإصلاحية المؤسسة لها، مثل الجمع بين التديّن وما يمنحه من طاقة روحية وإيمانية، وبين العلم الحديث وما يمنحه من معرفة علمية تخاطب العقل، والاهتمام بالجانب الدعوي والإصلاحي والنهضوي، وتقريب تعاليم القرآن بلغة معاصرة بسيطة من المجتمع.
فعلى الرغم من أنّ غولن استقال من الحركة النورسية قبل عقود، واستقلّ بنشاطه وعمله ومؤسساته المختلفة والمتعددة؛ إلاّ أنّه ما يزال يدين في جوهر رؤيته الإصلاحية إلى موروث النورسي وتصوّراته العامة. وربما نضيف إلى عوامل النجاح والاختراق، ما امتلكه غولن من قدرة شخصية على التأثير في المجتمع والناس والمواطنين بصورة واضحة.
كذلك، فإن أحد المفاتيح الأساسية في تفسير هذا الصعود، يتمثّل في طبيعة اللحظة التاريخية التي نشط فيها غولن. إذ انطلق بحركته المستقلة في عقد الثمانينيات، وحقبة ازدهار الخصخصة الاقتصادية والتوجه نحو السوق الحرة. ما أدى إلى انتشار وتوسع كبيرين في القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني؛ من شركات استثمارية، ومدارس، وفي قطاع الخدمات.. وأتاح فضاء واسعاً للعمل والنشاط والانتشار لهذه الحركة.
منذ البداية، حسم غولن موقفه، وجعل دائرة اهتمامه المجتمع وتنميته وتطويره، عبر فلسفة تقوم على الجمع بين الجانب الروحي والديني من جهة وبين العلوم الحديثة والمتطورة والحداثة الغربية من جهة أخرى. فموقفه لم يكن معادياً لهذه العلوم العصرية ولا للحضارة الغربية، بل على النقيض من ذلك، لم ينظر من زاوية الصراع السياسي، بل من خلال الفجوة العلمية والمعرفية، والعمل على ردمها وتجاوزها.
بمقارنة هذه الرؤية والأجندة الإصلاحيتين اللتين تتأسس عليهما حركة غولن، نجد أنّها أقرب إلى المدرسة الإصلاحية الإسلامية التي تشكلت بداية القرن العشرين، منها إلى الإسلام السياسي الذي ورث تلك المدرسة، لكنه نقل أولوياتها من المجال الاجتماعي والمعرفي والحضاري والاقتصادي إلى الجانب السياسي؛ من سؤال النهضة والإصلاح والتنمية إلى سؤال الهوية الإحيائي.
لكن الفارق بين الحركتين أنّ النورسي وجد غولن ليتم المشوار ويقطع مسافة أخرى من الطريق، بينما انقطعت الحركة الإصلاحية عند محمد عبده، مع توجه تلميذه محمد رشيد رضا إلى التصالح مع التيار الإسلامي التقليدي في مواجهة التيار العلماني، الذي خرجت رموزه المهمة من عباءة محمد عبده نفسه. فبدلاً من تجذّر الحركة الإصلاحية، ورثتها الحركة الإحيائية الحركية، وتراجع سؤال التخلف والنهضة وراء سؤال الهوية والصراع السياسي الداخلي!
(الغد)