جرت العادة أن يُحتفل بتاريخ انطلاق الثورات لا تاريخ انتصارها. في "الربيع العربي"، وفي الحالة التونسية تحديدا، يحتفل بـ"14 جانفي" (كانون الثاني)؛ أي يوم الانتصار وهروب زين العابدين بن علي.
وليس في ذلك تقليل للمناطق الداخلية التي اندلعت فيها شرارة الثورة، ودفعت الكلفة الأعلى من الشهداء والمصابين في سيدي بوزيد والقصرين والكاف؛ ولا تهميش لرمزية محمد البوعزيزي، بقدر ما أنه اعتراف بإنجاز "الربيع العربي". فانتصار الثورة التونسية هو ما ألهم الملايين في مصر وليبيا وسورية واليمن وسائر العالم العربي، وأرعب كل الطغاة.
يُحتفل في تونس بانتصار الثورة وكتابة واحد من أرقى دساتير العالم، وسط توافق وطني بين الخصوم الفكريين والسياسيين، بالتزامن مع انتصار الثورة المضادة في مصر، بالاستفتاء على دستور مكرس لأبشع أشكال الثيوقراطية العسكرية.
في الثورات، ليس شرطا أن تنجز الدساتير وتستقر. ففي أندونيسيا، كُتب دستور ما بعد الثورة أربع مرات، لكن على يد الثوار لا على يد الثورة المضادة من بقايا الدكتاتورية. المخاض قد يطول، لكن المهم أن يكتمل الجنين، ويولد من دون أن يقضى على الأم أو يموت خداجا.
جميل أن تُرفع شارات "رابعة" في شارع الحبيب بورقيبة؛ فالطاغية الهارب بن علي كان يستطيع أن يأمر جيشه باقتحام الشارع الذي حاصر فيه المتظاهرون مبنى وزارة الداخلية، وكان يستطيع أن ينهي الاعتصام بكلفة أقل من كلفة فض اعتصام ميدان "رابعة"، فكل ضحايا الثورة التونسية يقلون عن عدد شهداء "رابعة".
لكن لا يسجل ذلك للطاغية الهارب، ولا لجهازه الأمني والعسكري، فقد ارتبك وأُخذ على حين غرة، والصدمة كانت مشتركة؛ فالعالم العربي كله، والصامدون في شوارع تونس، فركوا عيونهم وهم يحدقون في شاشات التلفزة بين مصدق ومكذب. كما ارتبكت أميركا وإسرائيل وأوروبا. الخصوصية الأولى لثورة تونس، أنها الأولى.
نجحت الثورة المضادة في سورية ابتداء، وامتدت إلى العالم العربي. كان لدى بشار الأسد متسع من الوقت لتدبير أموره. أدرك أن الحسابات الأميركية والإسرائيلية ليست مع الجماهير. أمن الجبهة الخارجية بحياد أميركي وإسرائيلي، وحصل على دعم روسي وإيراني غير مسبوق. وداخليا، أطلق آلة القمع الدموية الإجرامية، مستعينا بأقبح أشكال الطائفية.
ومع تعثر الثورة في سورية، وغرور انتصار الثورة المضادة في مصر، فقد أغرى ذلك بتصدير الأخيرة (الثورة المضادة) إلى تونس. وبالفعل، قُطع شوط بعيد في التآمر إقليميا ومحليا؛ بدءا من مسلسل الاغتيالات، إلى الاستقالات والتظاهرات. لكن هذه الثورة، وفي ذكرى الانتصار، يبدو أنها هزمت. يعود ذلك ربما إلى نضج الأطراف السياسية، وربما إلى تركيبة الدولة التونسية التي يحتل الجيش حيزا محدودا فيها.
في العام الثالث، تجاوزت تونس مرحلة الخطر، وانتصرت مرة أخرى ع هلالةلى الثورة المضادة. وهي على موعد مع الانتخابات؛ ليس مهما من يفوز فيها، فإن فاز حزب "النهضة" مرة ثانية أو خسر، يظل الفائز هو الشعب التونسي الذي صار قادرا على تغيير الحاكم في تداول سلمي.
في يوم ذكرى انتصار الثورة التونسية، دفن شارون. صحيح أنه عبرة لكل السفاحين، لكن ما هو أهم من ذلك هو أن علينا التفكير في كيف انتصر علينا. لا أنسى الصفحة الأخيرة في مذكراته التي كتبها يوم كان معارضا، حيث تحدث عن السياسة التي تشبه الدولاب؛ مرة تكون فوق ومرة تحت. بهذه اللعبة عاد رئيسا للوزراء، وبهذه اللعبة انتصر العدو علينا. لو كان شارون من أمة مهزومة، لما غادر السلطة إلا إلى القبر.
سيظل يوم 14/ 1 أكثر أيامنا بهجة؛ عندما يهرب طاغية أو يدفن سفاح. المهم أن ندفن المرحلة التي أنتجت كل هؤلاء الطغاة وكل هذه الهزائم. وكل انتصار وتونس بخير.
(الغد)