في العام 576م . كان الكون على موعد مع حدث عظيم، حيث تم تبشير الكائنات بلحظة تحول كبرى سوف تمس الحياة، وسوف تُحدث سلسلة من التحولات الإيجابية الممتدة على الصعيد الإنساني، وسوف يستمر أثرها إلى مدى الدهر.
ما ينبغي أن يفهمه العرب أولاً وكل المسلمين ثانياً، وبعد ذلك كل شعوب الأرض وأمم الكون، مجموعة من الأمور والقضايا، التي تشكل نقاط ارتكاز في فلسفة الوجود الإنساني، وفي مجمل العلاقات المتشابكة والمعقدة مع الموجودات بكل أنواعها وأشكالها .
القضية تتعلق بقيمة الانسان ودوره العظيم في الكون، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جاء ليبلغ الناس اختيار الخالق للإنسان لحمل الأمانة وآداء الرسالة الكبرى التي عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها، حيث يقول الله عز وجل (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) ، وفي خطاب آخر لله مع ملائكته بهذا الشأن : (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)، وأشد الجوانب الملحوظة في هذا الموضوع تتعلق بالمكانة التي خص الله بها الجنس البشري، ومضامين الرفعة والتكريم، التي تقتضي من الإنسان أن يرتفع الى المستوى العظيم لهذا الدور الكبير، كما يقتضي منه الترفع عن السفاسف والجهالات وممارسة الظلم في ظل استثمار المهمة الكبرى، التي تليق بخطاب خالق الأكوان ومقدر الأقدار.
مضمون الرسالة يتعلق بمفاهيم الإعمار والاستخلاف في الأرض، والعناية بالمخلوقات، وحفظ الموازين المستقيمة التي تحفظ العدل وتقيم القسط، حيث قام عليها الخلق، وتقوم عليها الحياة، مما يحتم على الإنسان صاحب الرسالة أن يعمل على الحيلولة دون إحداث الفساد والخلل في البر والبحر نتيجة الممارسة القائمة على الجهل أو الناتجة عن الظلم المنبثق من حالة الطغيان التي تستبد بالنفوس المنحرفة وغير القادرة على فهم الرسالة الربانية فضلاً عن حملها وتمثلها والقيام بمقتضياتها.
القضية الثانية التي يجب أن تدركها كل الأمم والشعوب، أن النبي محمد ما جاء إلّا مكملاً لما جاء به الرسل من قبله، ومتمماً للبناء الفكري والإيماني القائم على المضمون الرسالي السابق، فهو لا يناقض رسالاتهم، ولا ينتقص من أحد منهم، مما يؤسس لمنهج إيماني جديد لا يكتمل الّا بهذا المعنى، حيث يقول الله عز وجل في هذه المسألة ( آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين احد من رسله).
وتأسيساً على هذا المبدأ، دعا محمد صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى التعاون مع كل شعوب العالم، ومع جميع أمم الأرض على ما فيه خير الناس، وما يحقق أمنهم ويحفظ حياتهم وقوتهم، ويؤخذ ذلك من مجمل قوله تعالى( وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ) حيث جعل مبدأ التعاون على الخير، أمر يفيد الوجوب، كما جعل النهي عن العدوان والاثم يفيد التحريم القاطع .
القضية الثالثة تتعلق بخطاب العقل . إذْ إن حمل الرسالة يقتضي استثمار ما يملكه الانسان من العقل، الذي يشكل القدرة على التفكير والقدرة على الفهم، والقدرة على النظر، من أجل امتلاك الحكمة التي تجعله يقدر الأمور تقديراً صحيحاً؛ ما تنتج التصرفات الصحيحة والأقوال الحكيمة، والسلوكات الخيَّرة الجميلة التي تعود بالنفع على نفسه وعلى غيره.
من مقتضيات الحكمة أن يفهم النفس الإنسانية ومكنونات الفطرة من أجل امتلاك القدرة على التعامل مع ذاته، وان يكون أميناً على نفسه، وبدنه وعقله، وبعد ذلك الوصول إلى حسن التقدير واتقان فن التعامل مع غيره، كما يحب أن يعامله غيره؛ ما يجعل العلاقات الإنسانية قائمة على الفهم والاعتراف بالآخر، وحقه في الحياة ، وتمتعه بالكرامة.
القضية الرابعة تتعلق بفلسفة الحرية، إذ إن مضمون الرسالة يقتضي إطلاق إرادة الإنسان واحترام حريته وصيانة كرامته، حتى يكون قادراً على حملها وأدائها؛ لأن الإنسان المقهور لا يستطيع حفظ ذاته فضلاً عن حماية موجودات الكون، ومن هنا فإن الحرية تستبق التدين، وتستبق السلطة؛ لأن الدين يقوم على الاختيار ونفي الإكراه، ما يجعلنا نصل إلى نتيجة منطقية أن الدين ينتفي بانتفاء الحرية لانتفاء ارادة الاختيار، ومن هنا جاء قول الله المحكم(لا إكراه في الدين) ما أحوجنا في ذكرى المولد أن نقف على جوهر الرسالة، ومقتضى الأمانة التي ترفع الإنسان وتزكيه، وتحفظ عقله وإرادته، وتصون كرامته وحياته.
(الدستور)