الأصل أننا نحيي الذكرى لنستلهم منها الدروس والعبر، أو لنسير على هدى أصحابها أو لكليهما، كما يجب ان يكون عليه الحال ونحن نحيي ذكرى المولد النبوي الشريف، التي ينقضي الزمان ولا تنتهي الدروس والعبر المستلهمة من سيرة صاحبها عليه الصلاة والسلام. وأول ذلك أنه عليه السلام بُعث نبيًا للرحمة والمرحمة.. ليس للإنسان فحسب، بل لكل مخلوقات الله عز وجل. فهو المبشر بدخول المرأة الجنة لأنها أسقت قطة، وتوجيهاته عليه السلام للرفق بالحيوان لم تصل إليها بعد أرقى المواثيق الإنسانية في هذا المجال.
ومثل الحيوان كان رفقه عليه السلام بالنبات. لذلك كان يوصي ومن بعده خلفاؤه، ألا تقطعوا شجرة، بل إنه عليه السلام هو من أبلغنا أن الجمادات تسبح بحمد الله، فإذا كان هكذا مع الحيوان والنبات والجماد.
فكيف هو إذن مع الإنسان أكرم مخلوقات الله؟ - وهو الذي تنزل عليه قوله تعالى:»ومن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا»(المائدة: 32)-. لذلك كان عليه السلام أشدَّ ما يكون رفقًا بالإنسان وهو القائل:»ليس منا من لا يرحم صغيرنا، ولا يوقّر كبيرنا» حتى إنه كان يسعى جاهدًا للبحث عن أعذار حتى للعصاة، كي لا يقيم عليهم الحد أو ليخففه عنهم، رأفة بهم وفتحًا لباب التوبة أمامهم.
فما بال أقوام يدّعون حب رسول الله والسير على خطاه، ثم يوغلون بدماء الناس عامة، وبدماء المسلمين خاصة، ثم يزعمون أنهم يسيرون على خطى السلف الصالح، والسلف منهم براء. فالإسلام لم ينتشر بحدَّ السيف، كما لا يجوز تكفير المسلم بالشبهة. فما بالك بتكفير اتباع مذاهب بكاملها! ألم يقرأوا كيف غضب رسول الله عندما قتل أسامة ابن زيد رجلاً بعد ان تلفظ بالشهادة. وعندما تذرع أسامة بأن الرجل إنما قالها خوفًا، زاد غضب رسول الله قائلاً لأسامة هلاَّ شققت عن صدره؟ بل إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، رفض ان يكفّر المنافقين وصلى على زعيمهم عبد الله ابن أبي مسلول عندما مات.
فما بال جماعات تدّعي التمسك بنهج رسول الله تُخرج معظم المسلمين من دينهم، وتقيم الحدّ على الناس بالشبهات. أليس في ذلك خروجٌ على سيرة رسول الله وشقٌ لصف الأمة. رغم ان وحدة الأمة فريضة على المسلمين، يقتل الخارج عنها المفارق لصفها. فلماذا صار القتل وسيلة لتفريق الصف بدلاً من ان يكون وسيلة لحماية وحدته؟.
كثيرة هي العبر المستفادة من سيرة رسول الله الذي نحيي هذه الأيام ذكرى مولده.. غير ان أبرز الدروس التي يجب ان نستحضرها هذه الأيام هي ان إصلاح الأمم والمجتمعات لا يكون بالسيف، ولا بالإكراه، ولا بالانقلاب، بل بالتربية والتعليم. لذلك ظل عليه السلام ثلاثة عشر عامًا يربي النواة التي ستقود التغيير، فكانت حصيلة الفترة المكية بضعة وثمانين مؤمنًا شكلوا نواة التغيير الذي امتد فيما بعد، ليشمل جزيرة العرب ثم ليكتسح الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، وهو درس يقول لنا إنه لا بد للإصلاح من نخبة صالحة مصلحة، تُعد إعدادًا جيدًا لتتولى بدورها تغيير المجتمع عبر تغيير نفوس ومفاهيم أبنائه، لا عبر فرض القناعات عليهم بالإكراه وبحد السيف، وهو أمر يحتاج إلى صبر وأناة وطول نَفَسْ.
فما بال جماعات وجمعيات تدّعي السير على نهج رسول الله تستعجل القطاف، وتريد ان تفرض على الناس تغيير واقعهم قبل ان تتمكن من تغيير قناعاتهم، وبدون أن يكون لديها القدرة على استيعاب هؤلاء الناس. فمن الدروس التي يجب ان نتعلمها من رسول الله إضافة إلى صبره، وطول نَفَسِه وإصراره على تغيير النفوس من خلال تغيير القناعات، قدرته عليه السلام على استيعاب الآخر، حتى المخالف له في الاعتقاد، وقد تجلّى ذلك في صحيفة المدينة التي استوعب من خلالها كل سكان المدينة من مهاجرين وأنصار، ويهود، ومشركين.
كما تجلّت قدرته عليه السلام على استيعاب الآخرين واللجوء للحوار معهم في استضافته بمسجده لوفد نصارى نجران، وفي مئات المواقف التي رفض فيها عليه السلام اللجوء إلى الإكراه، متمسكًا بمبدأ الحوار والإقناع، كيف لا وهو الذي نزل على قلبه قوله تعالى:»لا إكراه في الدين» فما بال أقوام يزعمون انهم على نهج رسول الله ثم تضيق صدورهم بمن خالفهم بالرأي أو المذهب وليس في العقيدة والدين.
وبعد؛ ففي ذكرى مولد محمد عليه السلام فإننا أشد ما نكون حاجة إلى إعادة قراءة سيرته عليه السلام كرسول للمحبة والوحدة والحوار والسلام. ما لم تنتهك حرمات الله، وما لم يسفك دم بغير فساد في الأرض. فهل يستوعب ذلك أولئك النفر الذين يفجرون الناس بالسيارات المفخخة أو بالأحزمة الناسفة، أو الذين يقيمون الحدود بالشُبهات؟ ألا تقتل هذه المفخخات أطفالاً ونساء وشيوخًا عزل وأناسًا انقطعوا للعبادة ألا تقطع شجرًا وتهدم أبنية. فأين ذلك كله من وصايا رسول الله وخلفائه وكل السلف الصالح بعدم فعل ذلك كله؟ أين هم من سيرة صاحب الذكرى عليه السلام يوم ولد ويوم مات ويوم يُبعث حيا؟.
(الرأي)