ليس بالضرورة أن يكون الفاسد في المستويات الوظيفية العليا لتمرير معاملات ومنح موافقات مخالفة للقوانين والأنظمة مقابل الحصول على منافع مادية شخصية "رشوة" بل على العكس تماما فقد يكون الفساد الأخطر مستشريا لدى صغار الموظفين.
وليس بالضرورة أيضاً، أن تكون عمليات الفساد مرتبطة فقط بحجم أو قيمة المبالغ التي يتكسبها الفاسد من جراء التجاوز على الأنظمة والتعليمات والقوانين للحصول على منافع شخصية مادية، فالمرتشي بعشرات الملايين كالمرتشي ببضع دنانير فكلاهما فاسد وعلى الحالتين يجب إيقاع إشد العقوبات.
التقرير الأخير الصادر عن منظمة الشفافية الدولية الذي يصنف الدول وفقا لمستويات الفساد في القطاع العام أظهر أن الأردن تراجع من المرتبة 66 إلى المرتبة 58 أي بتراجع 8 درجات، التراجع في ترتيب الأردن، حسب التقرير الذي شمل 177 دولة لا يعني بالضرورة أن مؤشر الفساد في الأردن ارتفع، وإنما قد تكون الدول المدرجة في القائمة لديها أدوات ووسائل حديثة مكنتها من اكتشاف عمليات الفساد ومكافحتها بفاعلية أكبر، الأمر الذي منحها إمكانات للتقدم على سلم القائمة.
ما يثير القلق والريبة في التقرير الصادر عن منظمة الشفافية العالمية ليس تراجع الأردن 8 درجات، وإنما يكمن في أن 60 بالمئة ممن شملهم استبيان المنظمة الخاص بالأردن قدموا "رشوة" للحصول على تصاريح أو خدمات أو إنجاز معاملات في مؤسسات القطاع العام.
مكامن الخطورة تشتد مع استفحال ظاهرة "الفاسد الصغير" المتغلغل في المستويات الوظيفية المتوسطة والدنيا، وهؤلاء إذا ما تركوا على حالهم وهم كثر، فإن هذا "الفاسد الصغير" سيتضخم ويتسلق ليحكم قبضته على المستويات الوظيفية كافة التي يوجد فيها، لذلك لنبدأ جميعا في مكافحة هذه الآفة والتبليغ عنها حيثما وجدت لنحمي بلدنا من استشراء الفساد.
بالفعل، إن الإدارة الأردنية شهدت مؤخرا تراجعا في الأداء وترهلا غير مقبول وهذا ما أكده جلالة الملك عبدالله الثاني خلال اجتماعه مع مجلس أمناء مركز الملك عبدالله الثاني للتميز مطلع شهر تشرين الأول الماضي، مؤكدا أنه يجب العمل على تدارك وإصلاح العمل في القطاع العام لخدمة الوطن والمواطن باعتبار أن هذا يتطلب التطوير المستمر لكفاءة ونوعية الخدمات المقدمة له، وأن على الجميع أن يعلم أن موظف القطاع العام موجود لهذه الغاية".
الجميع يدرك أن الترهل والتراجع في الأداء خلال العمل، لا يعني فقط التقاعس والتهاون وعدم الإنجاز، وإنما هدر المال العام وتلقي "الرشوة"، وهذا ما تظهره التقارير الصادرة عن ديوان المحاسبة ودوائر الرقابة المالية في المؤسسات والوزارات الحكومية، من ضبط لمئات الحالات من هدر المال العام وارتكاب مخالفات في تأدية الوظيفة عبر "الرشوة" والمحسوبية وغيرها من أشكال الفساد.
لنبدأ بالمكاشفة مع أنفسنا، فيوميا نسمع عن حالات تقديم الرشوة تحت ما يسمى "إكرامية" مقابل إنجاز معاملة أو تسريعها أو التجاوز عن مخالفتها للقوانين والأنظمة أو الحصول على خدمات "سوبر"، وهذه الأمثلة تتكرر على مسامعنا ومرأى منا بشكل يومي ولا نحرك ساكنا.
السكوت عن الفساد جريمة، والكشف عنه ومكافحته ليس منوطا بهيئة أو مؤسسة وإنما بكل مواطن أيا كان عمله أو موقعه، وإذا كنا لا نعلم بقضايا الفساد الكبرى فلنبلغ عن الفاسد الصغير.
(العرب اليوم)