لم أكن أعرف أن في السودان الرابض على أكتاف أثيوبيا وأريتريا ومصر وليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى عرب وزنوج، مسلمين ومسيحيين و (بلادين)، ولم أتوقع يوماً أن ينفصل إلى شمال وجنوب، وإلى لغة عربية وفرنسية وإنجليزية، وهو الذي امتلك قبل عام 2011 مساحة مليونية وتعداد سكاني فاق الـ 30 مليون نسمة، وانغمست في تاريخ قديم يضرب في أعماق العصر الحجري 3000 عام قبل الميلاد وانتشار الجنس الزنجي وإنسان سينجة الأول، وبأن أول لغة عرفها السودان كانت (الكوشية) قبل المروية نسبة للعاصمة الأولى، وبأن الكوشيين الأوائل هم من بنو الأهرامات، وبأن تاريخ السودان عج بالممالك، وفي عهد الإمبراطور الروماني جستيان الأول دخلت إليه المسيحية، وبأن الإسلام دخل إلى هناك في عهد الخليفة عثمان بن عفان ووالي مصر عمرو بن العاص، وبأن محمد علي باشا خديوي مصر العثماني قصدها محتلاً عام 1821، وبأن نهر النيل دخل مشاريع القسمة السودانية مبكراً إلى شرق وغرب.
لماذا اتجه السودان إلى القسمة؟ وهل هو بحاجة إليها أصلاً؟ وهل سبق لدولة عربية أن انقسمت أو قسّمت قبل ذلك؟ كثيراً ما أحذر في كتاباتي وغيري أيضاً من استمرار معاهدتي ومشروعي (سايكس بيكو) و ( الشرق الأوسط الجديد)، لكن شرقنا ممعن في التقسيم والسودان لم يكن أول بلادنا العربية بهذا الاتجاه، فالصهيونية التي التفت على الأمم المتحدة عام 1947 وقسمت فلسطين ثم احتلت 80% منها بقوة السلاح عام 1948 هي من بدأت المشوار وأكملته عام 1967 باحتلال كامل فلسطين والجولان وسيناء ومزارع وتلال شبعا ونشرت المستوطنات لتؤكد رفضها لحق العودة والذي هو أهم من حق التعويض بكل تأكيد، ثم بدأت تقايض الأرض العربية بالسلام معها جزئياً فخرجت من سيناء عام 1979 بعد معاهدة كامب ديفيد السادتية المشهورة، وحددت حدودها مع الأردن عام 1994 بعد معاهدة وادي عربة التي عادت لتعلن اختراقها من جديد في الأغوار، وخرجت من جنوب لبنان عام 2000 تاركة مزارع وتلال شبعا اللبنانية محتلة وبقيت عاجزة حتى الساعة عن توقيع معاهدة سلام مع لبنان بعد الخروج الكامل من أراضيه وعينها في هذه المسألة على سلاح حزب الله المرعب لها والراغبة بتجريده منه بعد نجاحها بسحب وتدمير السلاح الكيماوي السوري الذي هدد أمنها وأمن المنطقة الشرق أوسطية طويلاً، وبقيت تفاوض على الجولان مع سوريا رغم إخراجها بصلابة السلاح السوري الروسي الأصل من مدينة القنيطرة وبجهد عسكري أردني ومصري كذلك عام 1973 ولم تنجح في توقيع معاهدة سلام مع النظام السوري الحالي، وانقسمت فلسطين من جديد بين فتح السلطة في رام الله وبين حماس في غزة عام 2006 قبل ذلك.
نعم لم يكن السودان بحاجة لكي ينقسم في زمن الحاجة للوحدة والإصغاء لنداءات الثورة العربية الكبرى المجيدة، ولم يكن بحاجة لكي يعين سفيراً للشمال في الجنوب ويستقبل مثيله لكن خلافات سياسية شبت على زعامة الوطن السوداني والانضمام للعرب أو الانفصال عنهم والالتحاق بأفريقيا (القارة السوداء) إلى جانب تقاسم خيرات النفط الذي بدأ إنتاجه في حقول (أبي جابرة وشارف) عام 1998 علماً بأن 85% منه ينحصر في الجنوب، ولسبب خفي مفاده اعتبار الجنوبي سوداني من الدرجة الثانية بالمقارنة مع الشمالي، واقتصار الإعمار والتنمية في الشمال والوسط، و استرقاق الشماليين للجنوبيين أي جعلهم عبيداً، والاتجار بهم، وسيادة الثقافة القبلية المتعالية، والضغوط الخارجية الأجنبية ومنها دول الجوار وحركات تمردها، وسوء الإدارة وانتشار الفساد، وقضية دار فور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وشرق السودان مرشح للانفصال للأسباب ذاتها، فمن يقرع جرس إيقاف نزيف الانقسام المستمر هناك؟
لقد شكل مؤتمر خريجي المدارس العليا في السودان نواة ثقافية وسياسية عام 1983 لدحر الاستعمار الانجليزي والمناداة باستقلال السودان عبر البرلمان وهو الذي تحقق عام 1956، وسادت الأحزاب الطائفية مقل (الأمة) و (الأشقاء) و (الإخوان المسلمون) الذين حكموا السودان عام 1989 بزعامة حسن الترابي، واليساريين مثل الحزب الشيوعي والبعث والتيار الناصري، ومر السودان في مرحلة تكوين دستوري إن جاز التعبير، وقبل هذا وذاك تعرض السودان لحرب أهلية أولى عرفت باسم أنانيا بين الأعوام 1955 – 1972 وتركزت بين الشمال والجنوب واستمرت 17 عاماً حصدت نصف مليون قتيل، ودفعت لحرب أهلية ثانية عام 1983 دارت رحاها في الجنوب راح ضحيتها حوالي الـ 2 مليون سوداني، وانتهت بتوقيع معاهدة سلام (نيفاشا) التي قسمت السلطة والثروة بين عمر البشير الرئيس وبين جون قرنق قائد الحركة الشعبية التحريرية، وتشكل جيش الرب LRA، في الأعوام 1994 – 2002 على أراضي أوغندا كحركة شعبية متمردة قوامها 4000 رجل ثم رحلت إلى جنوب السودان، وبسبب غياب الثقة بين الشمال والجنوب واندلاع التمرد في منطقة (آبيي) الحدودية البترولية المتنازع عليها أيضاً والمفترض أن تم ادخالها لاستفتاء شعبي إلى جانب خيار الانفصال عن الشمال سودانياً عام 2011، وهي التي تمتلك حوالي 70% من حقول النفط السوداني بالمجمل، وشهدت تعايشاً بين قبائل الدينكا نقوك والمسيرية العربية في المنطقة الجغرافية الواقعة بين كردفان وبحر الغزال.
بينما هي الخرطوم عاصمة شمال السودان بقيادة البشير ركنت سلاحها جانباً لكي تتفرغ للتنمية المستدامة نجد أن جوبا عاصمة جنوب السودان بقيادة سلفاكيير مؤهلة للاشتعال بينه وقبيلته الدينكا وبين نائبه ريال مشار وقبيلته النوير المتهم بالاعداد لانقلاب عليه بينما هو ينفي ذلك ويعتبر التهمة الموجهة إليه هدفها ابعاده عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 2015، ويوجد تخوف من انفصال جديد سوداني تقوده مدينة بور شرقاً، وقد يتسع النزاع ليشمل قبيلة مورلي التي تخاصم قبيلتي (الدينكا) و(النوير) معاً، وقلق استثماري نفطي بسبب الاضطرابات المتلاطمة، وفي حالة توقف ضخ نفط الجنوب فإن اقتصاد الشمال سوف يتأثر بسبب فقدان فرصة الحصول على رسوم تكرير النفط، والآمال معقودة اليوم على الهيئة الحكومية لتنمية دول شرق إفريقيا إيغاد لتثبيت اتفاق السلام المبرم عام 2005 بين حركة تمرد الجنوب والشمال، وعلى تغليب الحلول السياسية واستيعاب الغير على الحلول الأمنية والعسكرية.
يوجد أكثر من سبب دفع بجنوب السودان لإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وعسكرتارية وأمنية لوجستية مع إسرائيل وهي العلاقة التي لم ترتبط بتاريخ انفصال الجنوب عام 2011 وإنما امتد لجذور عام 1967 عندما طلب الجنرال جوزيف لاجو لونجا مؤسس حركة جنوب السودان التعاون مع إسرائيل وأعلن عن استعداد بلاده عدم الاشتراك مع مصر في أية حرب عليها وهو ما رحبت به رئيسة الوزراء غولدامائير آنذاك، وعودة للأسباب فإنني أجملها بسحب ورقة السودان الداعمة للمقاومة الفلسطينية، وتصدير السلاح له لأحداث توازن عسكري بين الجنوب والشمال ولكي يتأكد لها أي لإسرائيل أن الانفصال تم فعلاً، ومن أجل إقامة علاقات دبلوماسية شبيهة ببعض دول العرب مثل الأردن ومصر، وأخرى اقتصادية بترولية لدعم اقتصادها وحاجتها من الطاقة ولتوسيع مساحة التطبيع مع العرب حتى قبل إعادة كامل الأرض والحقوق وإخلاء المستوطنات والسجون، وقبل الاعتراف بحق العودة إلى فلسطين مقابل وقف الهجرة اليهودية وخاصة السودانية إليها.