أجدني هذه الأيام أكره الجدّية. أشتاق إلى الثرثرات السطحية مع الأصحاب. إلى إعادة النظر في نوع قهوتي المفضّل.
إلى القلق من النشّ المتزايد على حائط غرفتي. إلى التردّد بين مشاهدة فيلم وآخر. إلى التفكير في ما سوف أرتديه غداً. إلى التأفف من هوس أمي بمنافع اللوز والجوز. إلى الضحك على نكات حبيبي. إلى سماع أغاني الغرام. إلى قراءة إصدار كونديرا الأخير. إلى التفوّه بحماقات.
إلى التعليق على ثياب مذيعة الطقس. إلى محاولة التكهنّ باسم الفتاة التي يدردش معها إبني على الواتساب...
أجدني هذه الأيام أكره الجدّية. وأحاول، جاهدةً، يائسةً، أن أفضّل المسلسلات الكوميدية على نشرات الأخبار. اللعب على التركيز. غنج هيفا وهبي و"مِحن" ميريام كلينك على حواجب السياسيين المعقودة وكلماتهم المجترّة. التكاسل على التعب. الفيديوكليبات على الجرائد. التفاؤل الساذج على البراغماتية.
أجدني هذه الأيام أكره الجدّية الخبيثة العابسة. جدّية السياسيين الكاذبة. جدّية رجال الدين المنافقة. جدّية القتلة. جدّية الحياة القتيلة. جدّية الأمل القتيل. جدّية اليأس القادر على وأد فتيل كل مبادرة فردية، مدنية، غير يائسة.
جدّية الشعور بأننا قطعان مقتادة إلى الذبح الجماعي.
أجل، أجدني أبحث عن شيء من الأوكسيجين وسط هذا الاختناق. عن تفاهات تخفّف ثقل هذه الحياة. عن عبث يجلي ضباب الموت. عن طقطوطة تطمس صوت الانفجارات التي لم تحصل بعد. عن كل شيء وأي شيء ينسّيني هشاشتي ويعيدني إلى لامبالاة الطفولة وأنانية المراهقة.
زيدوني من خبريات "أمّ العبد" وخفة دم "أبو صطيف". من ترّهات المغنيات والمغنين. من سخافات الدكنجي وخناقات الجيران على الانترفون. من دعايات مساحيق الغسيل وآخر صرعات الآي فون. شبعتُ من الخوف والكوابيس والقنابل والتهديدات والتهديدات المضادة. شبعتُ من الانتحاريين والمناضلين والممانعين والتخوينيين. شبعتُ من البرامج الحوارية والمزايدات الوطنية ودسائس ليلى عبد اللطيف. شبعتُ من احتمالات التهديد بتأليف الحكومة، والتهديد بمنع الحكومة الموعودة من الوصول إلى القصر الجمهوري لالتقاط الصورة التذكارية، أو إلى السرايا الحكومية لعقد اجتماع يتيم، أو إلى مجلس النواب لنيل الثقة. شبعتُ من التهديد بالفراغ الرئاسي، وبما يلي الفراغ الرئاسي من الارتماء في المجهول الأمني والوجودي.
(النهار اللبنانية)