ما شهدته امتحانات الثانوية العامة "التوجيهي" الحالية، يجسد صراع إرادات بين وزير التربية والتعليم، ومعه نقابة المعلمين والأمن والدرك، من جهة، وبين "شرائح اجتماعية متنمّرة"، تقف خلفها مافيات وعصابات، وظّفت، خلال الأعوام الماضية، حالة "الفوضى" لتحقيق مكاسب مالية كبيرة، فأصبحت الفوضى تجارة، بما يشبه أمراء الحروب الذين يقاومون أي محاولة لاستعادة الأمن وحكم القانون!
بالرغم من أنّه لا يمكننا القول إنّ امتحان الثانوية سار على ما يرام، كما كان في العقود الماضية، وكما يفترض أن يتم، إلاّ أنّنا نسجّل للوزير أنّه كان صاحب موقف شجاع؛ إذ رفض الانصياع للضغوط والاستقواء من هذه الأطراف، وكشف حجم الجريمة التي كانت تتم بحق أبنائنا ومستقبلهم ووطننا من جهة، وضبط الجوانب الإدارية والأمنية العامة بدرجة كبيرة، من جهة ثانية. ويسجل للنقابة والأمن أنّهما تعاونا في كثير من المناطق الساخنة، بالرغم من الأخطار والتحدّي العنيف الذي واجهته عملية ضبط الامتحان.
لو تراجع الوزير الحالي، وخضع للضغوط، وتراخت قبضة الأمن مرّة أخرى، فذلك يعني تجذّر حالة الفوضى وترسيخ انتهاك حرمة امتحان الثانوية العامة والانحدار الأخلاقي، بوصفها "حقوقاً مكتسبة"، وبرعاية رسمية، كما حدث خلال الأعوام الماضية! ففي مثل هذا الموقف، تحديداً، لا مجال للتهاون؛ فإمّا أن تكون هنالك دولة أو لا تكون، حتى لا نعود إلى الحلقة المفرغة ذاتها!
لا ينفي ذلك ضرورة تطوير امتحان الثانوية العامة، وإعادة النظر في الأسس الحالية التي يقوم عليها، والأهداف التربوية والتعليمية التي يرتبط بها، لكنّ على أن لا يكون الأمر بمثابة عملية هروب للأمام. فالانهيار الأخلاقي المتزاوج مع الفوضى، سيحكمان أي بدائل تأتي بها الدولة، وستنمو حالة الاستثمار فيها من قبل المافيات المتخصصة!
ولا ينفي ذلك، أيضاً، أنّ التوجه نحو الغش هو نتيجة لأسباب موضوعية متعددة، منها فقدان العدالة الاجتماعية في فرص التعليم، ما بين خريجي المدارس الخاصة والحكومية؛ وافتقار المحافظات المختلفة للحدّ الأدنى المطلوب؛ واختلال ميزان المساواة في القبول الجامعي.
فثمّة خيوط أخرى خطيرة للفوضى، تتمثّل في انكسار مسطرة القبول الجامعي الواضحة، في مقابل منطق المكافآت العشوائية التي توزّعها الدولة على النواب والأعيان والشيوخ عبر المقاعد الجامعية، وتمدّد سرطان "الكوتات" في القبول، على حساب معيار العدالة والمساواة القانونية. فحالة الاستثمار في الفوضى يشترك فيها أيضاً مسؤولون ونواب وشيوخ عشائر وأعيان، يمارسون جميعهم انتهاكاً للقانون والعدالة، وغشّا علنيا مشرّعا، أكثر صراحة وتبرّجا من محاولات الأهالي التنمّر على الدولة، حتى لو عنى ذلك أن يدوسوا الأخلاق والقيم بأقدامهم أمام أبنائهم!هذا وذاك يقودنا إلى ما قاله وزير التعليم العالي الأسبق،
د. وليد المعاني، في مقابلته مع "الغد" أمس؛ إذ صدمني وفاجأني رفضه الربط بين الاستثناءات في القبول الجامعي والعنف، وإحالته ذلك إلى "وقت الفراغ" الكبير لدى الطلبة.
فمع أنّ "وقت الفراغ"، أو بعبارة أدق الفراغ الفكري والروحي الذي يعاني منه طلبتنا، وعدم وجود مشروع أو رسالة وطنية جامعة، يشكّلان عاملاً من عوامل العنف الجامعي، إلاّ أن الاستثناءات التي لم تعد تقتصر بالمناسبة على مكرمتي المعلمين والجيش، وغياب معيار العدالة والمساواة، ووصول من هم غير مؤهلين بنسبة كبيرة جداً، وسيادة مُناخ عام يقوم على هذه الحالة من الفوضى المعيارية القانونية والأخلاقية.. لا تشكل فقط عاملا أساسيا للعنف الجامعي، بل هي الباب الواسع له، كما تثبت الدراسات واللجان التي شكلتها وزارة التعليم العالي نفسها!
(الغد)