تذكرتُ وأنا أستنطق ذاكرتي المستباحة بين يدي مفتتح هذا المقال ، شهادة صديقٍ لي يعمل في الحقل الأكاديمي أستاذاً جامعياً كان لسنين منهمكاً في العمل الفكري ، حول عملية الاستقطاب الحزبي وكيف كان يتعامل مع ممثلي تلك التيارات المختلفة آنذاك لا المتصارعة حالياً ، إذ كان كل واحدٍ منهم يغلف بضاعته استقطابوياً بأجمل ما في علم الكلام من زخرفٍ وبديعٍ وطرحٍ منمق ، لدرجة أنه كان يهرب من حيرة إلى حيرة في اختيار الحزب الذي سينتمي إليه وذلك للتشابه في الجوهر لا في الأدبيات وحسب ..

وحين بلغ منه ذلك الأمر مبلغه واستبدت به حيرة الاختيار أيما استبداد ، لجأ إلى الحيلة بأن دعا هؤلاء الفرقاء إلى وليمة في بيته لكن بدل المنسف على المائدة ، وضع صاحبنا شكلاً هندسياً ما مكتوبٌ على كل وجه من وجوهه كلمة المصلحة القومية ، وراح يناقش كل واحدٍ منهم ليسأله في المحصلة عن غاية حزبه الرئيسة ، وحين أجاب هؤلاء جواباً واحداً في نهاية كل نقاش هو المصلحة القومية ، راح صاحبنا يقلب الشكل الهندسي أمامهم ليروا أن غايتهم واحدة وهدفهم واحد ، أترك وقد أطلت مغازي هذه الحكاية لقارئ السطور يُخرج معي منها ما شاء من الخلاصات .

نعلم جميعاً أن العراق ضارب الجذور في أرض العروبة ، وأن كل متحركٍ وجامدٍ في بلاد ما بين النهرين ينطق بالضاد من القوافي حتى النخيل ، وأقفز مختزلاً هذه الحقيقة المحسومة التي قيل فيها ما قاله العراقيون مالكيّاً في عشق العراق ، كي لا نضيف جدلاً إلى الجدل القائم المتفاقم والمتعاظم للأسف الشديد ، حول عروبة العراق فنفت في عضد هذه المسألة حتى لا نغضب أحداً ، ثم لكي نقول خيراً وإلا فالصمت نجاةً من دوامة ما يجري حول الحكم في القطر الشقيق .

الذي عاش في العراق أو زاره يعرف أكثر بأن هذه الصراعات بتلاوينها كافة ، لم تكن كما هي الآن في العراق حتى في عقود حكم الشهيد صدام الثلاثة – مع اعتبار المسألة الكردية قطعاً ، فإذا سلمنا بأن الأكراد العراقيين كانوا راضين بالحكم الذاتي ، إذ كان لهم فيما نعلم حتى إعلامهم الخاص بهم لغةً وفعالياتٍ ونمط حياة ، فإنه لم يسجل أي ملحظ أو حالة تشير إلى ما يعانيه العراق حالياً من انقسامات ، فشعار الدولة الرسمي وأختامها على وثائقها وعلى وزاراتها ومنشآتها الحكومية والخاصة هو (الجمهورية العراقية) ..

وبهذا المعنى فإن السني ، والشيعي ، والكردي ، والتركماني ، والكلداني ، والأثوري ، و الصابئي المندائي (الخ) ، كلهم عراقيون ينتسبون للعراق جغرافياً وديموغرافياً تحت راية الجمهورية العراقية سياسياً ، لكنه محسومٌ أيضاً كثابتٍ من الثوابت وكمسلمة من المسلمات ، أنهم ينتمون إلى العراق كجزءٍ فاعل و حيوي من الوطن العربي ، وهو للذين لا يعرفون عضوٌ مؤسس في الجامعة العربية ، فضلاً عن حقيقة أنه النقش الأهم عربياً وإسلامياً على الخارطتين العربية والإسلامية ، أما الخائفون على عروبة العراق فنطمئنهم بأن الشمس لا تشرق من الغرب إلا عند قيام الساعة !

نعلم .. أجل ، أن صدام حسين كان حاسماً في هذه المسألة البالغة التعقيد والحساسية على جميع المستويات والصعد كافة ، وأجل أيضاً أن البوح في الصدور كان مخنوقاً وعلى نحو دراماتيكيّ ، يود لو ينطق بالحقائق والمكنونات لولا عصا النظام ومآسي الحربين الأخيرتين ، لكن السؤال الذي فيه الترياق ما زال قائماً ونرجو أن يبقى كذلك لكن هذه المرة على الأشهاد لا في الصدور ،لما لا يكون العراق أو الجمهورية العراقية على النحو الذي آنفت ، هو المرجعية الوطنية شرعياً وسياسياً والأدق وطن جميع العراقيين ، من شتى الأعراق والأطياف والمذاهب ومن الأصول والطوائف والمشارب كافة ، فإذا كان صدام حافظ بالقوة على الوحدة الوطنية بالتوليفة التي آنفت أعلاه ، لمَا لا يفعل ساسة العراق وأصحاب القرار فيه الآن الأمر ذاته لكن بالديموقراطية لا بعصا صدام – كما يدعون ؟!

من هنا .. و للحديث صلة ، و وفقاً للذي طوحت به آنفاً من مداخلات خاضعة هي بالقطع لأسنة الأقلام ، بدءاً من شكل صديقي الهندسي الذي قد يصبح هذه المرة سداسيّ الأضلاع والوجوه ..و العرض مفتوح !، وليس انتهاء بما بين السطور وعلى تخومها من صدى طبيعي لرغبة العراقيين الحقيقية والصادقة ، في الخروج من هذا المعترك الأصعب سياسياً والأهم إنسانياً في تاريخ العراق المعاصر ، ندعو أردنيا ًعربياً وإنسانياً جميع العراقيين على أرض الرافدين الغالية ، إلى أن يصلوا الآن وليس غداً صلاة الوطن العراقي ، بمعنى أن يكون الانتماء للعراق هو المبتدأ والخبر في جملتهم الوطنية ، وإلا فليتحلقوا – بعد أن يقرءوا بعالي الصوت دعاء الإستعراق ، حول مائدة مسجى على سطحها شكل هندسي مُسطرٌ على وجوهه جميعها بالدم الغالي اسم : ( جمهورية العراق ) .