قبل اكثر من عقدين من الزمن.......يوم كنا نعمل طوال النهار.....ونقضي نصف الليل نتذاكر في القصص والروايات التي رفض رؤساء التحرير نشرها حفاضا على صفو مزاج القراء وحماية للصورة الذهنية التي حملناها عن مجتمعنا الطاهر النزية واهله الطيبين .
في كل لقاء كنا نعرج على بعض المحطات من تاريخ بلادنا ومشكلاتها ورواياتها......وسيرة كبار اللاعبين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والعمل الخيري الخالي من المقاصد غير الخيرية....
فقد كان بيننا المؤرخ والصحفي والامني وكتاب التقارير على انواعها. كنا نجتمع على وجبات متواضعة في بيوتات بعض الاصدقاء الكادحين مثلنا....ويدعونا الميسورين الذين لا يعرفون عن بلادنا شيئا سوى بعض اسماء المدن التي لم يدخلوها احيانا.
كان من بيننا من يمتلك رغبة في ان يكون المضيف الدائم رغم ضيق ذات اليد..
التي لم تثنيه عن الاستمتاع في استقبالنا وتحمل عجرفة وقلة حساسية بعضنا لاوضاع صاحبنا الذي لا يرى قيمة اعظم من ان يقدم لزواره اطيب الاطباق..
كان صاحبنا يصرف الكثير من الوقت في محاولة لتامين السيجار ليغري بعض المترددين منا لقبول دعوته...ولان التدخين كان ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري في تلك الايام التي سيطر فيها فيليب موريس على مزاج واجواء التقاء الاردنين ففي كل جلسة يتناوب الحضور ممن لم يعتادوا التدخين على تجهيز واشعال واعادة اشعال حبات السيجار التي تشعرك وكأنك في مولد من الموالد التي يحيها النساك او الذين دأبوا على خدع تحضير الارواح تحت ظلال دخان بخورهم.
لا ادري لماذا شاع تدخين السيجار في تلك الايام......هل كان احتفاء بالاطاحة ببعض الساسة من مدخنيه ......ام انه الاحتفاء بولادة فجر جديد....فالسيجار على علاقة وطيدة بولادة الذكور.....في العديد من الثقافات .
كنا في تلك الايام نقبل على جزر الحرية وفضاءات السماحة التي نجد فيها متسعا للفكر و اللهو والتعبير والنقد والتحليل.... و احيانا السخرية من كثير من الاشياء التي بنيناها لتداري سخفنا وسذاجتنا....كنا نلتقي من وقت لاخر في استراحه على ربوة ترتفع قليلا عن مستوى ادنى نقطة لحوض البقعة كان قد انشأها احد اهم الشخصيات الاردنية التي نالت من المحبة والشعبية والتقدير ما لم تنله الكثير من الشخصيات التي تغنينا بها دون ان نضعها على محكات الاختبارات الشعبية.
محمود سعيد الرجل السبعيني الذي اسست اسرته دارا للايتام في عقبة جبر قبل احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967 هاجر الى الضفة الشرقية ...واختار ان يجاور المخيم الاكبر...ويخوض الانتخابات التي انطلقت عام 1972 وليحصل على اعلى الاصوات بين مرشحي المنابت والاصول......واستطاع بعدها ان يوظف تجربته الرعائية في احتضان كل الشباب والرجال الذين انجذبوا الى الاجواء الديمقراطية الجديدة التي اسسها وشجع الجميع علي ان ينعم بها.....مثل الصاغة الارمن كان يجلس محمود سعيد يتفحص الشباب الطامحين الذين كانوا يستعرضون مواهبهم في حضرته....
لم يخلو منزل الشيخ محمود يوما من القرى....الذي يتقاطر علية الايتام (بالمعنى المجازى لليتم) ممن حرمتهم ظروف وشروط اعمالهم من ان يصادقوا الغير بالرغم من فرط حاجتهم للصداقات......العشرات من ضباط الدوائر الامنيه.. والوزراء.... وكبار رجال السياسة ..والكتاب ...والصحفيون....وبعض تجار الاراضي....وملاك العقارات......ونواب الامة....واعيانها...كانوا يترددون ...على النادي مفتوح العضوية...الذي يرتاده الاعضاء والمؤازرون....من فئات الشباب والرجال والكهول...من كافة المنابت والاصول.
رسوم الاشتراك في النادي الوطني ابتسامات.....ولاعضاء الشرف....نكات ومزحات من العيار المتوسط او الثقيل احيانا........لكن الحب والترحاب والتقبل...والدعابة هي القيم التي لا يستقيم زمان المكان دونها.
ابا خالد كان مثل الجمعيات الخيرية...في العطاء....ومثل القرى المجمعة التي توفر للابناء التربية والتنشئة.....في وطنيته كان مثل الاتحاد الوطني......فهو الذي بقي ملتزما بالمشروع الذي تلاشى حماس الكثيرين لاتمامه....
على الرغم من عبثيته التي تغري جلسائه....كان الرجل صاحب نظرية في تقسيم الادوار........فالناس بالنسبة لة طبقتين الاولى طبقة المحسنين ام الثانية فهي طبقة المنتفعين......محمود سعيد كان يقسو على المحسنين....وكان سخيا على المنتفعين........
محمود سعيد "وعلى حد تعبير احد اذكى الاصدقاء " كان مثل منقضي السباحة يراقب الجميع ...لا يبدي رايا واضحا ....ويمكن ان ينجدك اذا ما اشرفت على الغرق...( .فهو يعي العالم جيدا.....يفهم اللعبة جيدا.....معلم في قراءة المجتمع وتحليله ورصد نبضه ومعرفة اوجاعه
محمود كان له فراسة في الناس..... قدرة على فهم طبائعهم....حب للحياة الخالية من التعقيد........كان مخزن من مخازن التراث......ساخرا من كل الاحداث والشخوص الذين لا يدركون انهم مجرد لاعبين لادوار.....ولا يقوون الا على صناعة الشقاء لانفسهم.......لقد استمتع محمود سعيد بالالف شهر التي عاشها لانه فهم الحياة..........وفهم ان تعاطف المحسنين مع المنتفعين...هو اكثر انواع الانتفاع الذي يحرصون عليه لتجميل صورهم لدى البؤساء الذين سيبقون بانتظار احسانهم