وينشَأُ ناشئُ الفتيانِ منا على ما كان عوَّدَه أبوه
(أبو العلاءالمعري)
يتداول الأردنيون مقطعا من محاضرة لرئيس مجلس الأعيان عبدالرؤوف الروابدة، يتحدث فيه عن المفارقات التي يقع فيها الأردنيون، من أصول شرق أردنية وفلسطينية، أو ما يسمّيه هو حالة "التريزوفرينيا" (الشيزوفرينيا ثلاثية الأبعاد أو الشخصيات)، وتعكس مستوى التناقض بين القناعات والخطابات، والتلوّن في اللغة والموقف في هذه العلاقة، بدلاً من تصميمها على أسس أخلاقية وسياسية ومجتمعية متينة، تقوم على الصدق والمصارحة والشفافية!
ربما قصر الروابدة حديثه على قضية جزئية واحدة. لكنّ الظاهرة التي يتحدث عنها هي عامة وكبيرة، تمتد إلى أغلب جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وللأسف حتى إلى مجال التربية والتعليم والعائلات، والمدارس والجامعات.. إلخ.
وإذا كنّا نتحدث اليوم عن امتحان الثانوية العامة "التوجيهي"، فهو شاهد مرعب ومخجل على أزمة الأخلاق والسؤال الثقافي لما نتحدث عنه. فالآباء والأمهات يشجعون أبناءهم ويساعدونهم على الغش والخداع وتجاوز القانون ونيل ما لا يستحقونه على حساب الآخرين، واتباع الطرق الملتوية للحصول على النتائج المطلوبة؛ فأيّ انقلاب وانتهاك ليس لقيمة امتحان الثانوية فحسب، بل حتى لسلّم الأخلاق والقيم في حياتنا اليومية والاجتماعية!
لا يختلف الأمر في علاقات العمل أو حتى في الحقل السياسي، حتى أصبحنا نسمع للشخص الواحد خطابين متناقضين، خلال أقل من عام؛ الأول وهو في موقع المعارضة، والآخر في موقع الحكومة والسلطة. وحتى المسؤول الذي يمضي حياته مدافعاً عن السياسات الرسمية، يصبح معارضاً شرساً بمجرد خروجه من "السيستم".
هذه مشكلة أخلاقية وثقافية أصيلة في مجتمعاتنا، وليست جديدة. لكنّنا بدلاً من مواجهتها والتخلّص منها والتعافي من نتائجها القاتلة، نجدها تتجذّر وتتمدد، وتصبح، مع مرور الوقت ومع الانهيارات السياسية الجارية في عالمنا، أكثر سفوراً وتبرّجاً وحضوراً. فالمجتمعات باتت تغص بالأمراض الأخلاقية والمشكلات الثقافية المزمنة. وإذا استمرّ الأمر على هذا المنوال، فسنجد أنفسنا في نهاية اليوم أمام عشوائيات اجتماعية وثقافية، تفتقد إلى الهويات الجماعية والقيم الأخلاقية العامة، وتستبيح المحرّمات الإنسانية كافة، كما يحدث اليوم في سورية ومصر والعراق.. إلخ.
إذا عدنا إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، سنجد أنّ هذه الأمراض الاجتماعية والثقافية، التي تمثّل أحد أهم عناوين التخلف في مجتمعاتنا، وأسباب مجافاتها لطريق النهضة والتنمية، هي الهاجس الكبير لمدرسة الإمام محمد عبده، والمدرسة الإصلاحية الأولى التي تتبنى المقاربة الثقافية والتربوية والتعليمية، وتجد امتدادها في جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، ولاحقاً في كتابات المفكّر الجزائري مالك بن نبي، الذي يضع المسألة الثقافية، وما ينبثق عنها من سؤال الأخلاق والإصلاح المجتمعي، في قلب أولوياته واهتماماته.
على الصعيد الكوميدي، لعلّ أفضل من عكس هذه التناقضات هو الأديب السوري الكبير محمد الماغوط، في مسرحية "غربة" (بطولة دريد لحام ونهاد قلعي)، عندما كان يحتفل أهل قرية "غربة" بـ"عيد الكذب"، وأراد المعلّم القادم من الخارج إقناعهم بأن يتحول إلى عيد للصدق، فكانت النتيجة مشاجرات واسعة، انتهت بحكمة غوّار له: "شفت جنابك شفت الصدق شو بيعمل.."!
في الخلاصة، اللحظة التاريخية الراهنة تستدعي، على وجه السرعة القصوى، رد الاعتبار للخطاب الأخلاقي الثقافي في مواجهة الأمراض الاجتماعية المتجذرة والجديدة ومحاربتها، ووضع هذه القضية في صلب اهتماماتنا الإعلامية والإصلاحية، كما فعلت المدرسة الإصلاحية الأولى، ومالك بن نبي، بخاصة مع الانهيار المشهود للطبقة الوسطى في كثير من المجتمعات، وصعود الهويات الطائفية والعرقية والتعصبات والعصبيات والمخدرات، وانقلاب السلم الأخلاقي والقيمي.
(الغد)