ندلف نحو عام جديد مُثقل بتركة العام الذي الذي قضى نحبه على الصعيد العربي مثخناً بالجراح، والشعور بالعجز المشوب بالإحباط، حيث لم تستطع الأطراف المعنية الاستثمار المنتج في حالة الصحوة العربية التي اجتاحت الشعوب المنكوبة بمخلفات الحقبة الاستعمارية، والمنكوبة بأنظمتها وزعمائها الذين أشبعوا شعوبهم شعارات منمقة وعبارات معسولة، تغلف العجز والبؤس والفقر والشرذمة والتخلف الحضاري.
نأمل في العام الجديد أن يتسرب الينا خيط رفيع من الأمل يبدد الغيوم السوداء وضباب الحيرة والقلق الذي يلف المنطقة، وخيط من أشعة شمس الحرية التي تشرق في صدور الأجيال الجديدة التي ينبغي أن تتمسك بالعزيمة والإصرار على الانطلاق من الركام والحطام الموروث، نحو البناء والشروع في النهوض الجمعي الكبير.
نقطة الانطلاق ولحظة البلاء تحددها عملية تقويم شاملة، يشترك فيها أصحاب الفكر والنظرة الاستراتيجية بعيدة المدى، بطريقة علمية جريئة، وبمنهج موضوعي، يخلو من العاطفة، ويتحرر من المداهنة والمداراة، ويتخلص من التقليد، وكل أشكال النفاق والتزلف، من أجل فهم الواقع وتشخيص المشكلة بطريقة سليمة ودقيقة، تفضي الى وصف العلاج الصحيح الشافي، إذ أن التشخيص الخاطىء للمرض يفضي الى علاج خاطىء بشكل حتمي لا جدال فيه.
في هذا السياق نحن أمام مجموعة من القضايا الكبيرة التي تستحق الحوار المعمق والواسع، تتلخص أولاها بعجز القوى السياسية التي تطفو على السطح من تشكيل رؤية استراتيجية بعيدة المدى للحركة الشعبية بعمومها واختلاف ألوانها وأطيافها، مما ساعد على تحويرها واجهاض تطلعاتها، حيث تم حصر الجهود المبذولة في دائرة الصراع على السلطة، ومكاسب الحكم، وعجزت الأطراف كلها عن خلق شراكة سياسية، أو مجرد شراكة وطنية قادرة ايجاد الأرضية التي تستوعب الخلاف والجهود المبعثرة، وإذا استمر العجز عن حل هذه المعضلة، فسوف تستمر معركة الطحن الذاتي التي تقتات على الانقسام المجتمعي القائم على أسس دينية أو عرقية أو مذهبية أو آيديولوجية سياسية.
العقبة الثانية عدم قدرة الأجيال الجديدة على تأطير نفسها عبر أطر وطنية قادرة على بلورة الرؤى وتحديد الإستراتيجيات المستقبلية، وعدم قدرتها على تجاوز الخلافات العميقة الموروثة التي تحرسها القوى التقليدية، التي جعلت منها أولوية متقدمة على الأولوية الوطنية العليا التي ينبغي أن تسمو فوق الخلافات الحزبية والسياسية، مهما حملت من درجات الصحة والخطأ.
القضية الثالثة تتعلق بالتبعية السياسية والفكرية لقوى ودول خارج حدود الدولة، بمعنى أن معظم القوى على الساحة الأردنية تنحدر من قوى سياسية فاعلة في دول أخرى، ولا أقصد التشابه الفكري ولا المشاركة في الخط السياسي العام، وإنما أقصد التبعية العميقة التي تصل الى حد استلاب القرار السياسي المفضي الى الغاء الشخصية الوطنية وتطويع المسائل لتكون متفقة من هذه التبعية، وتعد هذه القضية قضيةً جوهرية، وليست هامشية لأن التبعية تحول دون تحقق الوحدة ودون خلق شراكة وطنية حقيقية، وما حدث في المشهد السياسي المحلي حول الانقسام على ما يجري في سورية أو ما يجري في مصر، خير شاهد ودليل على ذلك، وفي هذا السياق لا يعني الذهاب الى الوطنية المغلقة والمنعزلة عن السياق العربي والإسلامي، وانما نقصد وطنية منفتحة، تحقق النهوض القطري الذي يتكامل مع حركات النهوض في دول الجوار العربي والإسلامي، ولكن دون تبعية سياسية أو تنظيمية تلغي الشخصية الوطنية وتسد الأفق السياسي المحلي بطريقة مهينة.
القضية الرابعة تتعلق بالمنهج السلمي، حيث أن السلمية عنصر قوة، ولا تمثل عنصراً من عناصر الضعف، ويجب أن تكون القوى السياسية عصية على جهود جرها نحو مستنقع العنف التي تريده قوى الاستبداد، من أجل التغطية على معركة الحرية من خلال رفع شعار مقاومة الإرهاب، ولن تكون الشعوب قادرة على تحقيق الحسم ضد جيوش معبأة ومسلحة بأسلحة ثقيلة وحديثة من خلال قوى تمارس القتال بطريقة الهواية أو عن طريق استيراد المقاتلين من خارج الحدود.
هناك قضايا أخرى كثيرة تستحق المناقشة والحسم مع بداية العام الجديد، من أجل صناعة الأمل وتحويل الأمنيات الى واقع عبر امتلاك أدوات القوة،وليس عبر ممارسة لعبة الانتظار المصحوبة بالبلادة الذهنية وسوء التقدير.
(الدستور)