الضمان الاجتماعي ومستقبل الأجيال
07-02-2008 02:00 AM
القوانين هي حروف جامدة ، وضعها المشرع الانسان ، في ظرف معين ، ولهدف نبيل ، هو تحقيق الحق والعدالة ، والعدالة امر نسبي ، تختلف اسسها تبعا للمكان والزمان ، وتختلف في المكان الواحد تبعا لتغير الزمان ، والزمن هو اكبر عامل في التغيير ، فالقانون الذي وضع قبل عشرات السنين ، كان في زمانه وظرفه مثاليا ، ويحقق حسب مفهوم ذلك الزمن وظروفه ، اكبر قدر من العدالة النسبية ، لكنه لا يصبح كذلك مع مرور السنين ، وتغير الاحوال .من هنا ، فان الشعوب الحية تعدل قوانينها ، بما يتلائم مع المستجدات ، التي تبدل في المقاييس ، لكن الهدف من كل تلك القوانين وتعديلاتها ، هو الانسان اولا واخيرا ، لاجله يوضع القانون ومن اجله يعدل عندما يتطلب الامر كذلك ، فالانسان هو الغاية والهدف ، فالسعي الى رفاهيته واكسابه اكبر قدر ممكن من حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها ، ومن هنا وضعت الدساتير في دول العالم ، كي تنظم علاقة المواطنين مع بعضهم البعض ومع الحكم القائم وعلاقة الجميع مع الوطن ، الذي هو البوتقة التي تحتضنهم ، فحق الحياة الحرة الكريمة ، وحق التعلم والعمل ، وحق الرعاية الصحية والحياة الاقتصادية الفضلى ، هي حقوق طبيعية للانسان ، تعدل القوانين كي تضمن توفرها بالقدر الاكبر ، فالتعديل على القوانين هو دفع الى الامام لتحسين حياة المواطن .
هذا ما كنا نأمله من تعديل قانون الضمان الاجتماعي في الاردن ، خاصة بعد هذه الخبرة الطويلة لمؤسسة الضمان الاجتماعي ، التي تجاوزت الربع قرن ، وبعد هذا النجاح المالي الذي حققته ، وبعد ان عاشت العثرات وتجاوزتها ، تعديل لمصلحة العاملين ، يتمثل في زيادة رواتبهم التقاعدية ، كي تبقى على الاقل تتماشى مع ارتفاع تكلفة المعيشة المتصاعد ، قلنا هذا على الاقل ، لان الامل في رفع مستوها وليس بابقائها عند نفس المستوى ، فكيف ان اصبح التعديل يهدف الى خفضها .
منذ سنين ونحن نسمع عن توفر النية لتعديل قانون الضمان ، والتوجه للانقضاض على بعض مكتسبات العاملين بعد تقاعدهم ، وبعد ان يكونوا قد افنوا زهرة شبابهم في العمل ، لكسب لقمة العيش الكريمة ، ولتأمين هذه اللقمة عند تقاعدهم ، وكبرت الاحمال والهموم مع تقدمهم بالسن ، من حيث تصاعد وتيرة الغلاء ، وتأكل الرواتب ، واتساع قائمة المتطلبات العائلية ، ولعل اهمها تامين السكن والدراسة الجامعية للابناء ، اضافة الى بروز المشاكل الصحية لدى المتقاعد في هذا العمر المتقدم ، كل ذلك يشكل مع تناقص الدخل الناتج اصلا عن التقاعد ، عوامل احباط ويأس وأسى للمتقاعد ، وهو يرى نفسه عاجزا عن تنفيذ الحد الادنى من متطلبات الحياة لعائلته وله ، خاصة اننا نعلم جميعا ما ألت اليه احوالنا الاجتماعية الاقتصادية ، فمن الزواج المتاخر وبالتالي الوصول الى سن التقاعد وما زال الابناء لم يصلوا بعد ، الى مرحلة الاعتماد الكامل على النفس ، ومع اضافة مشكلة البطالة ، التي تبقي الابناء سنوات طويلة بعد التخرج بدون عمل ، مما يؤدي الى تاخر اكبر في سن الزواج ، فكيف اذا امتزج ذلك مع الغلاء وانخفاض الدخل ، فتصبح الهموم اكبر ، على الاباء اولا ، ممن يتحسرون من حالة العجز ، الى الابناء الذين يصابون بخيبة الامل واليأس ، من القدرة على تحمل مسؤولية الحياة ، فتكون النتيجة مجتمعا محبطا مهزوما من مصاعب الحياة ، كل ذلك تكون نتائجه ضررا على الوطن وتقدمه وازدهاره ، وضعفا في الانتماء اليه ، وطنا ضعيفا عاجزا يائسا ، وعرضة لكل الامراض الاجتماعية .
اننا نؤمن بوجود ظرف طاريء يستدعي شد الاحزمة على البطون لمواجهته ، لكن مثل هذا الظرف يجب ان يكون استثنائيا مؤقتا ، حتى تمر الازمة بسلام ، فيكون ذلك خطوة قاسية على طريق التقدم للامام ، اما ان يستبدل التقدم للامام بالتراجع للخلف ، فهو امر مرفوض ، خاصة ان انعدمت المبررات المنطقية له ، نؤمن بلغة الارقام والحسابات والدراسات الاكتوارية ، لكننا نؤمن ايضا بوجود الحلول ، بعد معرفة مكامن الخلل ، فمؤسسة الضمان الاجتماعي مؤسسة وطنية ناجحة ، تضم تحت مظلتها ملايين المواطنين ، يستظلون بها من غدر الزمان ، ويجب ان تكون اهلا لهذه الثقة ، فتحقق العدالة ، وتردع العابثين ، الذين يستغلونها لتحقيق رفاهية زائدة على حساب الاخرين ، نفهم تعديل القوانين لردع هذه الفئة وليس العقاب الجماعي لمعظم منتسبيها ، بالانتقاص من حقوقهم المالية ، وهم في ظرف احوج ما يكون لها .
ان من يضع التشريعات ويعدلها ، هو قبل كل شيء انسان ، لن يستطيع ان يدعي الكمال ، فالقضية وطنية ، تحتاج الى جهد وطني لمناقشتها ، وتحديد مواطن الخلل فيها ، وايجاد الحلول بعد سد الثغرات ، والاستفادة من تجارب الاخرين الناجحة ، فهل من المعقول ان تتقاضى فئة قليلة جدا من الناس ، اضعاف ما تتقاضاه الاغلبية ، من خلال التحايل على القوانين والانظمة ؟
يحضرني هنا قول مأثور لأمي عندما قالت : "ما دام ابا الحسين خيال الهذلة* ، لا تفرحوا يا اعدائنا " ، وانا هنا اؤكد مقولة امي للمشرعين ، الذين تجمدت احاسيسهم بهموم الوطن والمواطن ، فتعاملوا مع المواطن كتعاملهم مع حروف القانون الجامدة ، واقول لهم ، ان هناك قلبا يخفق بحب الاردنيين ، ويتألم لمعاناة اصغر مواطن فيهم ، يجوب ارض الوطن من اقصاه الى اقصاه ، من الحمة الى رحمة ، ومن الصافي الى الصفاوي ، يتحسس اوجاع ابناء شعبه ، وتمتد يده الحانية بالدواء لهم ، فهو العزوة وهو السند ، وهو الامل الاول والأخير ، ولن يضام اردني في وطن يقوده ابا الحسين ، فلا تحاولوا العبث بلقمة عيش ابنائنا ، فابا الحسين لكم بالمرصاد .
*******************
الهذلة* : المهرة الأصيلة من خيول الاشراف والعائلة المالكة .