المؤامرة التي تخدم الديموقراطية
جهاد الزين
31-12-2013 04:36 PM
أعتقد أننا نشهد الآن في الصراع التركي الدائر في انقرة واسطنبول ما قد يعجِّل ربما الإغلاق الأمني والسياسي للحدود التركية السورية التي فُتِحت في السنتين ونيِّف الأخيرة للمرة الأولى.
أختم أيضاً العام 2013 بمقال عن تركيا لأن هذا البلد الذي بدأ يدخل حثيثاً حقبة "ما بعد رجب طيِّب أردوغان" لا زال يحضن الفرصة الوحيدة المتاحة في الشرق الاوسط ومعظم العالم المسلم القديم لعلاقة بنّاءة وتقدمية بين الإسلام والحداثة بمعنييها الديموقراطي والاقتصادي في وقتٍ نشاهد فيه بأم العين والسمع والاعصاب الانهيارات المتتابعة للعديد من دول المنطقة الداخلة في حروب أهلية محلية وإقليمية فتّاكة والتي مع الأسف الشديد ساهمت سياسة "حزب العدالة والتنمية" في حوالى السنتين ونيف الأخيرة بتدمير أهم هذه الدول وهي سوريا منذ فتحت حدودها لعسكرة الثورة المدنية في ذلك البلد.
إذا كان الاقتصاد يقوم على هذا الجبل من عمليات الفساد الذي كشفت رأسَه فقط الاعتقالاتُ التي حصلت ضد مجموعة
كبيرة من أبناء وشركاء ومدراء نافذين حول "حزب العدالة والتنمية"...
وإذا كانت السلطة السياسية التركية قد استبدلت "الدولة العميقة العسكرية" السابقة التي كانت فوق القانون بـ "دولة عميقة إسلامية" ظهر أنها أيضا فوق القانون...
إذا كان الأمر كذلك في تركيا اليوم، فإن "المؤامرة" التي لا يكفّ رئيس الوزراء رجب طيِّب أردوغان عن التحدّث عنها باعتبارها ضده وضد حزبه... إذا كان الأمر كذلك... فهي مؤامرة ضرورية لمستقبل تطوير الديموقراطية التركية أيا تكن خسائرها الحالية. وأنا أحسب هنا الخسائر الاقتصادية لأن الخسارة المعنوية، أي "تلطيخ سمعة" البلد والحكومة، ليست خسارة بل هي في سياق سلمي وديموقراطي ستتحوّل إلى مكسب لتركيا ولِـ "النموذج التركي" الذي بات يستلزم الانتهاء من حقبة "حزب العدالة والتنمية" الآخذة بالاهتراء مثلما تجاوز هذا النموذج سابقا حقباتٍ أخرى وأجيالاً أخرى.
أتذكّر دائما كلمة الصديق الباحث والمعلّق التركي النبيه سولي أوزيل في عزِّ صعود "حزب العدالة والتنمية" حين كتب أن هذا الحزب هو "قوة دَمَقْرَطَة لا قوة ديموقراطية".
كم كان هذا التوصيف دقيقا. ولهذا ومع بدء تدهور "حزب العدالة والتنمية" كم يصحّ القول أن "حزب العدالة والتنمية" وعلى الأقل قيادة رجب طيِّب أردوغان له هي اليوم عبءٌ على تطور الديموقراطية التركية بل هو قوة غير ديموقراطية. ففي اللحظة التي يقف فيها رئيس الوزراء علنا ضد توسيع التحقيق في عمليات الفساد ويمنع سماع إفادة نجله بلال عبر رفض ضباط الشرطة الجدد الذين عيّنهم تنفيذ مذكَّرات قضائية بل يُبعد أحد أهم قضاة النيابة العامة عن منصبه، في هذه اللحظة تصبح سلطة الحزب ستارا كثيفا ضد الشفافية باسم شعارات وطنية طالما أشبَعَنا منها أسوأُ حكّام العرب في العقود السابقة.
قرأتُ في العام 2013 بعض الكتب والمقالات حول جذور النخب الثقافية التركية التي ساهمت في العقود الأخيرة من الامبراطورية العثمانية والسنوات الأولى من الجمهورية في تطوير الأفكار التحديثية التركية المعاصرة فانتبهتُ أكثر إلى النوعيّات العديدة المهمة منها التي أتت من المناطق المسلمة داخل روسيا والقوقاز والبلقان. بينما عدد النخب الآتية من الولايات العثمانية العربية كان محدودا (بين المثقفين).
وهذه إحدى الظواهر العميقة في بنية ما سيصبح تركيا. مما يعني جاهزية تركيا لكي تتعرّض إلى مشاريع "غير عثمانية" في تعبيراتها عن إسلامها سواء بين العلمانيين أو الإسلاميين.
كمال أتاتورك عبّر عن "الانكفاء" ضمن الحدود التي استطاعت الحركة الوطنية التركية الحصول عليها بسلسلة من الحروب الدامية مع كل المحيط (ما عدا الحدود مع إيران الثابتة منذ القرن الثامن عشر).
وانطوت تركيا الحديثة دائما على مشاريع لنخب ثقافية تهدف للاهتمام بالجمهوريات "التركية" في آسيا الوسطى والقوقاز لا بالعالم العربي.
أعتقد أننا نشهد الآن شيئا من ذلك في الصراع التركي والذي قد يعجِّل في نتيجته الإغلاق الأمني والسياسي للحدود التركية السورية التي فُتِحت في السنتين ونيِّف الأخيرة للمرة الأولى بهذا الشكل والمضمون منذ العام 1923... فبعد التجربة الوخيمة للسياسة الخارجية التركية في العالم العربي يجب ان نتوقّع موجة جديدة من
"إعطاء الظهر" للعرب وتكريس الانفتاح على "الشعوب التركية" وأوروبا. وكل الخطورة أن تتأكّد للنخب التركية الجديدة من مختلف الاتجاهات نظرية مصطفى كمال أتاتورك أن "العرب رهان خاسر".
(النهار اللبنانية)