الجوع إحساسٌ غريزي كالألم أو الفرح.. كالبكاء أو الضحك .. حاجة (بيوسيكولوجية) .. ولغة عالمية توحِّد الناس ويفهمونها جميعا بنفس الطريقة.. فالبيوسيكولوجيا أو الإحساس والانفعال الناشئ عن أصل بيولوجي كعضة الجوع مثلا لا يختلف عند إنسان ما عنه عند إنسان آخر .. كونها من المسائل التي تنتمي إلى العرق الذي يوحدنا جميعا كبشر وهو البيولوجيا.والناس في صبرهم على الجوع واستجاباتهم للدغته مختلفون وإن اتحدوا جميعا في فهمهم له وإحساسهم به .. لكن في الغالب الأعم هم لا يطيقونه أبدا وغالبة الناس يتغير أمزجتهم وطباعهم لدى تجربة الجوع .. فيغدوا إنسانا آخر صعب المراس حاد الطباع .. وربما شرسا أحيانا .. حتى أنه ربما يصبر على أشد الآلام وعلى حجز الحرية رغم قسوته ومرارته لكن لا يصبر على الجوع .. وقد انعكس هذا في الأقوال السائرة من مثل قولهم : الجوع كافر . . ومما يروى عن أبي ذر الغفاري قوله: عجبت للرجل لا يجد قوت يومه ثم لا يخرج شاهرا سيفه.
ومرات قد يجوع الإنسان بإرادته لحكمة أو فائدة كالامتناع عن الطعام بسبب الحمية أو علاجا ما .. أو للتطهر والتعبد (حالة الصيام مثلا ) .. أو قد يحصل ذلك كنوع من الاحتجاج كما يحصل في الإضراب عن الطعام مثلا .. وحتى في هذه الحالات فله قيود وحدود كما للصيام شروط ومدد محددة أو للحمية التي تتم تحت إشراف أهل الاختصاص (الطب) ..لكن حتى في حالة الاضطرار إلى اللجوء للطعام كوسيلة للاحتجاج فله بدوره حدود بحيث يكون هو الوسيلة الأخيرة لإسماع صوت المحتجين .. ولا يُلجأ له لأتفه سبب إلا حينما تـُستنفذ كل الوسائل الأخرى وما من مستمع.. أو كان ما هو واقع على الإنسان من الم وظلم وحرمان أقسى من الم الجوع ذاته .. وكان هذا الإجراء هو الوحيد الذي بقي لديه بعد أن استنفذ كل الوسائل .. وعادة عندما نسمع أن إنسانا ما اضرب عن الطعام مثلا فعلى الفور يتبادر للذهن وصوله إلى حالة متقدمة من الاحتجاج والرفض بعد أن مر بمراحل سابقة أقل حدة .
ثمة جوعٌ آخر جرى الاصطلاح على تسميته ووصفه بالجوع النبيل وهو تعفف البعض طلبا لكريم الزاد كما قال قائلهم:
ولقد أبيتُ على الطوى وأظلّه...... حتى أنالَ به كريم المأكلِ
وقول الآخر مادحا سجاياه :
وان مُدّت الأيدي إلى الزادِ لم أكن .... بأعجلهم إذ اجْـشَـعُ القــومِ أعجلُ
أديم مِطـال الجــــوعِ حتـى أميته .... وأضربُ عنهُ الذكـرَ صفحاً فأذهلُ
وفي كل الأحوال .. فأن يجوع الإنسان بإرادته يبقى أمرا مفهوما وهو خاضع لإرادة الجائع نفسه ولمصلحة متوخاة من ذلك الجوع ، وعادة ما تكون أعلى قيمة من الطعام الممتنع عنه أو والألم الناشئ عن ذلك الامتناع.
لكن فعل التعدية من الجوع أي التجويع إما بالحصار أو قطع مصدر الرزق والإفقار أو سوى ذلك يبقى هو الأمر الأكثر بشاعة والذي لم تكتشف البشرية ما هو أكثر بشاعة منه حتى الآن ولا حتى القتل نفسه رغم كونه أكثر الشرور وطأة وغاية ما يمكن من إيذاء .. إذ قد ينشأ القتل عن المحبة ويكون بدافع منها .أو يكون فعلا وعملا عادلا رغم قسوته .. لكن لا يمكن أن ينشأ التجويع والحرمان إلا عن الحقد والتشفي ونية الأذى والعداوة .. ولا يوجد حتى في أحكام العدالة حتى على أعتا المجرمين والقتلة حكما بالجوع وإن وجدت أحكام بالقصاص .. لكن حتى هذه فإنها تنفذ بطرق شتى ليس من بينها الحكم بالموت جوعا. . وقد يقتلك من يحبك وبدوافع من مشاعر كتلك .. لكن لا يمكن أن يجيعك إلا من يكرهك وَمن مهما حاولت لا تستطيع أن تجد لفعله تصنيفا إلا كفعل من أفعال العداء والشر .
ووحده من يمتلك حق أن يطلب من الناس أو يأمرهم أن يجوعوا لكن بإرادتهم ودون أن يمنع عنهم الطعام بالمناسبة هو الذي خلقهم وخلق طعامهم .. لكن حتى هذا الطلب يتم في حدود ووصف معين ومقرونا بوعود بثواب عظيم وبعد شرح الحكمة منه للناس وانه ليس طلبا تعسفيا يراد منه الحرمان والإهانة والإيذاء .. حتى أنه تعالى اعتبر أن الصوم بالذات هو له وحده بينما أعمال الناس الباقية لهم ..و هو توكيد لمعنى كونه الوحيد المخول بطلب وأمر كهذا .
وهكذا فإذا كان التجويع المتعمد عن سبق تصور وتصميم هو إجرام لم تعرف البشرية ما هو أقسى منه فإنه يكون أكثر إجراما وبشاعة حينما يكون مقترنا بدوافع أخرى كالتجويع للإذلال أو لامتهان ومس الكرامة الإنسانية أو التجويع لتحطيم الإرادة والاستيلاء عليها أي تجويع بدافع الاستعباد (إجرام مركب) .. أو التجويع بدوافع انتزاع تنازلات أو ركوع وتخلي الإنسان أو الشعب المُجَوّع عن حقوقه لصالح الطرف القائم على التجويع أو خضوع إرادته لإرادته أو لحمله على القبول بما لم يكمن ليقبله لولا ذلك مثلما يحصل اليوم في غزة وكما حصل في العراق إبان الحصار والعقوبات الذكية .
وإذا كان هذا هو حال التجويع الناشئ من قبل طرف معاد يوقعه على فرد أو شعب ويهدف لاستخدام الجوع كسلاح ضد الخصم ..فثمة تجويع آخر أخطر هو الجوع الناشئ عن فساد الإدارات والحكومات والذي يؤدي إلى إفقار الناس الذين هم في هذه الحالة ليسوا أعداء لتلك الحكومات والإدارات بل هم مسؤوليتها وشعبها الذي منه تستمد شرعية وجودها وبقائها في الحكم .
ومما اذكره في هذا الصدد واسرده هنا على سبيل الدعابة الهادفة أنه في سني الطفولة وكنت نزقا إزاء الجوع عكس ما غدوت عليه اليوم .. فكانت الوالدة عندما ألح عليها بعد الرجوع من المدرسة مكررا بكلمة أنني جائع أو جوعان فتقول لي اصبر حتى أعد الطعام .. أو إذا كان على النار حتى ينضج .. فإذا كررتها كثيرا كانت تلتفت لي بعصبية وتقول : (جوع وحزن مجموع ..شبعت والا أزيدك؟) .. فاشعر بالذنب واسكت .. ويجعلني هذا الغضب الأمومي المباغت أذهل عن جوعي وأذهب عنه صفحا ريثما يجهز الزاد وكأنما زودني بجرعة من الصبر وهو من عبقرية الأمومة .. وإلا فهي بالتأكيد لا تقصد فحوى الكلام .. فلا توجد أم يمكن أن تقصد بأن تتمنى لطفلها جوعا وحزنا مجموعا معه لكنه نوع من الرد الحازم على اختلاف الصيغ واللهجات والثقافات تلجأ له الأمهات أحيانا للرد به على إلحاح الأبناء وقلة صبرهم حينما لا يجدون لديهم بدورهم ردا مشابها على صراخ وإلحاح معدهم الخاوية ..
ومن الجوع عن طريق البوارج والطائرات والحصار والعقوبات الذكية ...الخ القائمة إلى الجوع عن طريق الخصخصة واللملمة والعولمة وما اشتق منها من تعابير ومصطلحات براقة راجت كالنار في الهشيم في السنين الأخيرة فإننا لا ندري أين يمضي بنا الخواجات ووكلاؤهم في بلادنا..والذين هم بالتأكيد لا يقصدون مداعبتنا أو إلهائنا عن جوعنا قليلا ريثما يجهز الطعام كما هي الحال لدى الأمهات .. ولنلاحظ في هذا المقام أن الفرق بين مستثمر ومستعمر هو حرف (الثاء والعين) ..واللذان إذا جمعناهما غدت ثعـ .. وهما أول حرفين من ثعلب وهو رمز المكر والخديعة .. (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله )
ودائما يبقى الجوع لغة بيولوجية نفهمها جميعا بذات الكيفية وان اختلفت دوافعها والأسباب المؤدية إليها والتي قد تكون دوافع مفهومة وأسباب مبرّرة.. لكنها كثيرا ما تكون استغلالا واستخداما للجوع كسلاح ووسيلة عقاب وتعذيب وهو ما نهت عنه كل الشرائع ولم تقره أبدا حتى ولو كان كعقوبة على ذنب عظيم.
msallamk@yahoo.com