لا يستطيع المنصف إلا أن ينحني لكل صاحب إرادة تقهر الظالم والمعتدي، وينتصر عليه، فكيف إذا كان لا يملك سلاحا سوى الإرادة القوية، والصبر الطويل لاسيما على أهم سببين للحياة، الطعام والماء.
ولمن لا يعرف سامر، فهو الأسير الفلسطيني الشاب، صاحب أطول إضراب عن الطعام في التاريخ.
تصدق عليه مقولة: إن جل أشيائنا تأتينا من الوراثة، فقد ورث النضال عن أسرته، فمن جده إلى جدته التي استشهدت في سنوات الانتفاضة الأولى، إلى والديه اللذين ذاقا مرارة الاعتقال، وفجعا باستشهاد شقيق سامر البكر، وأخيرا تعرض إخوته وأخواته الستة للاعتقال!
إذاً لم يكن صبر سامر على الجوع والعطش من قليل عاناه، ولكن من قهر تراكم في نفسه بما يُعجز صبر الإنسان، فاختار سلاحه الذي لا يملك غيره في زنزانة الأسر، فقرر أن يقهر القهر طالما أنه لا يملك سلاحا آخر يقدر أن يواجه سجّانه به.
حكم عليه بالسجن لمدة 30 عاما بحجة الانتماء للجبهة الشعبية، وليس للقتل أو القيام بتفجيرات، قضى منها عشر سنوات، ثم أفرج عنه لمدة شهور في ما يسمى بصفقة شاليط، ثم أعيد اعتقاله في 2012، وطولب بالسجن لمدة عشرين عاما بحجة ممارسته نشاطات تنظيمية وسياسية، وزيارة مناطق في الضفة الغربية!
وفي أب 2012، أعلن إضرابه المفتوح عن الطعام احتجاجا على اعتقاله التعسفي، وفي آذار 2013، بدأ اضرابه عن الماء أيضا حتى نيسان 2013، إذ أوقف اضرابه عن الطعام والماء الذي استمر 9 شهور في صفقة جديدة أخرجته منتصرا يوم الاثنين الماضي، فسامر بهذه السيرة أصبح صاحب أطول إضراب عن الطعام والماء في التاريخ !
لم تثمر معركة سامر التي خاضها بأمعائه الخاوية الحرية له فحسب، بل كسرت قانونا عسكريا كان قد فرض على الأسرى المحررين يقضي باعتقالهم لأي مخالفة يقومون بها حتى لو كانت مخالفة سير!
صاغ سامر الأسر صياغة جديدة، وحمّله معنى آخر، فدخل التاريح من أوسع أبوابه، وسجل فعلا أنه عربي صاحب قضية، وقادر على التصدي لسجّانيه بالإرادة القوية.
لقد حوّل السجن الموحل بالعتمة إلى حقل مورق بصبر المؤمن بقضيته، ومزهر ببراعم وطن، ينهض في يوم ربيع دائم لا يموت!
اختصر سامر حالة التوق إلى الحرية بحرمان نفسه من الطعام، فإن لم يقنع هذا سجّانه، فليكن بالماء أيضا؛ ليعطي بالمقابل صورة مغايرة لأولئك الذين يبيعون وطنهم من أجل امتلاء بطونهم سحتا!
حكاية سامر تصلح أن تسرد على مسامع الطامحين الذين يقفون على عتبات اللئام لا يملكون سوى البطون المُشرعة، وضعف الإرادة!
لقد رفض الموت في زنزانة أمام سجانيه، واختار أن يموت بطلا شهيدا، أو أن يعيش حرا كريما.
حقق سامر الحضور لوطنه خارج الزنزانة، فحضرت معه قضيته، ومعاناة شعبه حضورا غير عادي من خلال حكايته.
صحيح أن جسد سامر نحل نحولا شديدا، لكن قامته استطالت، وامتدت على مساحة الإعلام العالمي، ليس لأنه لم يقبل بذل الأسر فقط، بل لأنه استبدله بإحراج آسريه، وتبكيتهم، وتعرية ظلمهم أمام العالم.
حقا، على صبر الأسرى وجوعهم وعطشهم تنهض الأوطان تماما مثلما تنهض على دماء الشهداء، فسامر بنى قلعة جديدة في وطن لا يموت.
انتصر سامر، وخرج من السجن بسلاح نملكه جميعا، فعلمنا درسا خلاصته أن كلاً منا يمكن له أن ينتصر على الآخر المعادي له في الحياة بالتسامي فوق صغائره، والزهد في الحاجة إليه.
ما أحوجنا اليوم وفي كل يوم إلى إرادة سامر، وزهد سامر، لننتصر على الجلادين، وتجار الكراسي، والخانعين، وذوي الجاه الكاذب، وكل الفاسدين، والكاذبين.