أهمية الإستثمار في التعليم العالي والبحث العلمي
د. عادل محمد القطاونة
29-12-2013 04:22 AM
لقد أكدت الدراسات أن هناك علاقة وثيقة بين التعليم العالي والبحث العلمي والاقتصاد والنواحي الاجتماعية، إذ لم يعد ينظر إلى العملية التعليمية على أنها مجرد خدمة، بل أصبحت استثمارًا يستهدف إلى تحسين مستوى الحياة للأفراد، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، وإذا كان الاقتصاد هو شريان الحياة للمجتمعات الإنسانية المعاصرة فإن التعليم بمختلف أنماطه هو مادة هذا الشريان، وذلك لضمان استمرارية الازدهار الاقتصادي.
يرتبط مفهوم الاستثمار بمفهوم التنمية الشاملة، فالتنمية الشاملة عملية ثقافية تهدف إلى تحسين نوعية الحياة الإنسانية وذلك من خلال تحسين قدرة الفرد في التعامل مع العلم والمعرفة وتقنيات العصر، والتنمية بهذا المفهوم تتوقف على التعليم الجيد للإنسان، فالتعليم هو المحور الأساسي للتنمية والنهوض الحضاري، وهو القاطرة التي تقود الحياة الإنسانية بقوة واقتدار. في خضم هذا الطرح تنظر العديد من دول العالم إلى قضايا التعليم العالي والبحث العلمي بشكل مستمر وتعمل بكامل قواها من أجل الإستثمار في هذا القطاع الذي يرى الكثيرون أنه القطاع الضامن لإستمرار عملية البناء والتطوير في اقتصاديات الدول المختلفة.
إن الموارد الطبيعية ورأس المال والعمالة عوامل ليست كافية لتنمية أي اقتصاد في أي دولة ما إذ ينبغي توافر كم كبير من القدرات المهارية البشرية لتستغل كوقود في إحداث عملية التنمية الشاملة ومن دون ذلك فإن توقعات المستقبل الاقتصادي تبدو كئيبة إلى حد ما.
إن الإستثمار في التعليم العالي والبحث العلمي يعتبران من الضرورة بمكان , فلكي تستفيد من التقدم في كافة مجالات العلوم وفي أي مكان في العالم ومن تقنية الإنتاج الجديد التي هي وليدة هذا التقدم, فإن الدولة مطالبة بتوفير كوادر من العلماء والفنيين المتخصصين, ولا شك أنها وظيفة رئيسية أن يقوم التعليم العالي بتخريج كادر بشري كفؤ وعلماء متخصصين وفنيين مهرة يسعون في تحقيق الاضافة المطلوبة.
لقد اختلف التعليم اليوم من التركيز على المهارات اليدوية إلى التركيز على المهارات العقلية، فالذي يملك العقل المتعلم المرن المتكامل هو الذي يملك الثروة. وعالمنا اليوم تعتمد فيه التنمية الشاملة على المعرفة، بعد أن كانت تعتمد على الاستخدام الكثيف لرأس المال والعمالة، عالم يعيش ثروة المعلومات والاتصالات والثقافة المتعددة الوسائط.
لقد أصبح المعيار الاقتصادي يأتي في مقدمة المعايير التي يقاس في ضوئها تقدم الأمم، ولما كان التعليم العالي يعمل على تنمية القوى البشرية بتزويدها بالمهارات والمعارف اللازمة للقيام بعملها المنتج، صارت العملية التعليمية اقتصادية لها كلفتها ومعدلاتها ولها مدخلاتها ومخرجاتها، وبالتالي تؤثر على السياسة التعليمية.
لم يعد التعليم العالي ضرورة للتنمية الشاملة في المجتمع فقط، بل أصبح أحد حقوق الإنسان الأساسية، لأنه ضرورة لتنمية الشخصية الإنسانية، وهو أمر لابد منه لممارسة حقوق الإنسان الأخرى، لذلك فإن الفرص غير المتكافئة في التعليم يُنظر إليها على أنها ظلم اجتماعي كبير، وكثير من المشكلات الاجتماعية تظهر في التعليم، فقضايا مثل الفقر وزيادة السكان وتدني الخدمات التعليمية والصحية تظهر علاماتها بوضوح في التعليم، حيث الكثافة العالية من الطلاب داخل الفصول، وتعدد الفترات الدراسية في المدرسة الواحدة، وتداعي الأبنية التعليمية وضعف التحصيل الدراسي للطلاب، وضعف الإنفاق على التعليم، وتدني مستوى الخريجين.
إن التعليم العالي في مضمونه ليس عملية استهلاك للوقت والكلفة , بمعنى أنها لا تكتسب أهميتها من مجرد الحضور في مراحل الدراسة لإشباع الذات فالنفقات العامة والخاصة توجه إليه من أجل اكتساب عائد إنتاجي يتجسد في الأشخاص الذين سوف يأخذون على عاتقهم تقديم الخدمات في المستقبل والعملية التعليمية هي استثمار في تنمية قدرات البشر وهكذا يدعم التعليم العالي قدرة الأفراد في مجال تنفيذ المشروعات والإدارة ودراسات الإنتاجية والاقتصاد.
من هنا فإنه كلما كان التعليم العالي استثمارًا ذا عوائد ومكاسب مستقبلية فإنه من الخطأ الجسيم أن نعتبر نفقات التعليم استهلاكًا فوريًا, فالتعليم ليس كالطعام, كما أن التعليم ليس نفقات للرفاهية, وليس عبئًا على الدولة واستخدامًا لمواردها أو استنزافًا لمدخرات كان من الممكن استخدامها في أغراض استثمارية أخرى فنفقات التعليم تعتبر جزء من الدخل الوطني في كثير من الدول المتقدمة.
يشكل الاستثمار عملية إمداد وتزويد للمؤسسات المختلفة سواء في القطاع الخاص أو العام بالتنمية والأفكار والأموال والطاقات والإمكانات اللازمة عند الحاجة، وحسن إدارة كل هذه الموارد من أجل ترقية القدرات البشرية لتحقيق أنسب استغلال للثروات والإمكانات المتاحة، وتحسين نوعية الحياة. والاستثمار في التعليم العالي يختلف عن الاستثمار في رأس المال المادي، فإذا كان الاستثمار في رأس المال المادي يمكن التنبؤ بالعائد منه وقياسه في زمن محدد، فإن الاستثمار في رأس المال البشري لا تتحقق عوائده إلا على المدى البعيد، ولا يمكن قياس عائده بالمقياس ذاته لرأس المال المادي، ولا يمكن التحكم فيه بعامل الزمن، كما لا يمكن التنبؤ بعوائده بدقة، وذلك لتدخل عوامل كثيرة يصعب ضبطها.
لقد أصبح من شبه المؤكد أن هناك علاقة بين الاستثمار في العنصر البشري من ناحية الزمن والنوعية، وبين العائد من هذا الاستثمار، فمعظم الدراسات تؤكد أن المكاسب تزداد بزيادة التعليم والتدريب كمًّا وكيفًا، وتنقص عند العكس من ذلك، فعائد العاملين بعد التعليم الثانوي أقل كمًّا وكيفًا من عائد العاملين بعد التعليم العالي.
لم يعد التقدم في الوقت الحاضر مقصورًا على التقدم في النواحي العسكرية أو السياسية أو الثقافية فحسب، بل إن جوانبه أصبحت متعددة وشاملة، وهذا يعني أنه لابد من تخريج قوة بشرية لها القدرة على التطوير والتحديث، وذلك من خلال مؤسسات تربوية وبحثية متعددة، متمثلة في الجامعات والمعاهد العليا ومراكز البحوث، ويتحمل التعليم العالي رسالة بناء وتطوير الإنسان الذي يمثل الطاقة المتحركة والقوة الدافعة لعملية تطور المجتمع وتقدمه.
لكي تتحقق الأهداف المنشودة في ميدان التعليم العالي فهناك مجموعة من العلماء والمفكرين العرب اقترحوا مفهوم الشجرة التعليمية بدلًا من السلم التعليمي، حيث يختلف مفهوم الشجرة التعليمية عن مفهوم السلم التعليمي في أن مفهوم السلم له بداية محددة، وتسلسل محدد، ونهاية محددة، بينما مفهوم الشجرة التعليمية له بداية فقط، كما أنه مرن ومتنوع في تسلسله، وليس له سقف محدد، فنهايته مفتوحة، تسمح بالامتداد والنمو مع تشعب ونمو المعارف والعلوم والفنون.
تعتبر مؤسسات التعليم العالي قيمة حضارية، فهي الأداة والقوة التي تحرك الأحداث، وتعطي الدفعة التي تسير حركة التاريخ، لذلك الجامعات والمعاهد العليا تعتبر عنوان الشعوب، فالتقدم العلمي والتكنولوجي نتاجها، والخبراء والفنيون صناعها، ومن ثم فالجامعات والمعاهد العليا تعتبر المصنع الذي يمد المجتمع بالقوى البشرية المحركة لكل مقدراته، بل المبتكرة لكل مستحدثاته.
لذلك حظي التعليم العالي في السنوات الأخيرة باهتمام رجال الفكر التربوي، ويأتي في مقدمة هذا الاهتمام تمويل واستثمار التعليم العالي، وهذا يعني الاهتمام بمصادر تمويلية تساعد على استثمار رأس المال البشري في مرحلة التعليم العالي من أجل مستقبل مشرق وتخطيط واعِ منظم.
ختاماً يمكن القول أنه يمكن تقدير أثر التعليم العالي والبحث العلمي في الإنتاجية من خلال المقارنة بين أجور الأشخاص المتعلمين وغير المتعلمين عبر الزمن، ويطلق على هذا المقياس العائد الاجتماعي للاستثمار في التعليم.
كما يؤثر التعليم بشكل غير مباشر على الإنتاجية من خلال التأثير على الصحة، وقد أثبتت الدراسات أن الأمية والجهل يؤثران تأثيرًا فعالًا على مستويات الصحة الفردية والعامة، وبشكل عام يسهم التعليم في تحسين الموارد البشرية وتطويرها من خلال رفع الكفاءة والمقدرة الذهنية وسعة الاستيعاب ورفع إنتاجية القطاعات المختلفة للاقتصاد.