لقد شاهدت فيلم عمر المختار مرات كثيرة، ولا أمل من تكرار مشاهدته مرات عديدة، ولكن عندما شاهدته هذه الأيام، أثار في داخلي مجموعة من المشاعر المختلطة، بعضها يبعث على الاعتزاز والفخر، وبعضها يبعث على الحزن والكآبة، وبعضها يبعث على القلق والخوف، وبعضها على العزيمة والاصرار...
فيلم عمر المختار عمل فني رائع، يستحق الإعجاب، إذ استطاع المرحوم العقاد أن يختصر خلال ساعات معدودة؛ مسيرة شعب مدة عشرين عاماً من الجهاد والقتال ضد حملة استعمارية استيطانية، تمثل جريمة تاريخية بشعة سوف تبقى محفورة في أذهان الأجيال العربية على مدار الزمن، وينبغي أن تكون هذه الحقبة الجهادية تجربة غنية للشعوب العربية، تدفعها نحو البناء وامتلاك عناصر القوة؛ من أجل السير في عملية التمكين المجتمعي الشامل.
عمر المختار شكل نموذجاً رائعاً من نماذج البطولة العربية الإسلامية، التي تجمع بين القيم الإيمانية السليمة، وقيم الحرية والكرامة الإنسانية، وقيم الرجولة والفروسية التي تتمسك بالحق والفضيلة؛ ما يحتم علينا جميعاً إبراز هذا النموذج، وجعله مثالاً يحتذى به في العصر الحديث، إضافة إلى نماذج أخرى كثيرة تستحق العناية والتقدير، إذْ باشر الانخراط في القتال وقد نيف على الخمسين من عمره، واستمر في نضاله المقدس ما يقارب العشرين عاماً من أجل تحرير شعبه وأرضه، دون ان تلين له قناة أو تفتر له عزيمة.
مما يستوجب المقارنة أن الغزاة الإيطاليون المدججون بالسلاح الحديث والثقيل؛ كانوا يمارسون حربهم بهمجية كبيرة، إذْ كانوا يقتلون المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، ويحرقون الزروع وحقول القمح والمنتوجات، ويهدمون البيوت، ويقتلون الحيوانات، ويجمعون الشعب في معسكرات الاعتقال، وينفذون الإعدامات الميدانية بشكل يومي وفقاً لمحاكمات عسكرية صورية، تخلو من قيم العدالة والنزاهة، وكان قائدهم يرفع تحية الفاشية فوق جثث المدنيين المبعثرة، وما يدعو إلى مضاعفة مشاعر الغضب، أن إيطاليا وغيرها من الدول الاستعمارية لم تعتذر عن هذه الأعمال المشينة بحق الإنسانية وتخدش وجه الزمن، ولم تقدم على أي خطوة جريئة نحو الاعتراف بهذه الجريمة التاريخية المروعة، التي تستحق المعالجة التي تبدأ بالاعتراف والاعتذار والتعويض وإزالة آثار الضرر الضخمة التي لحقت بهذه البلدان وأجيالها ومستقبلها.
وفي مقابل ذلك، بقي عمر المختار يقود جهاد الشعب الليبي بأعلى درجات النبل، فلم يقدم على قتل الأسرى، ولم ينخرط في أي صنف من أصناف جرائم الحرب، ولم ينحط إلى المستوى البهائمي، ولم يستجب إلى نداء الغرائز البدائي، وكان يقول لأتباعه عندما قالوا له: هم يقتلون أسرانا، مجيبا: هم ليسوا قدوة لنا، لكن سوف يبقى الدرس البليغ ممثلاً باستعصائه على محاولات الإغراء، والمقايضة، ولم يقم بتحويل نضاله إلى مكاسب سياسية متقزمة على المستوى الشخصي أو الفئوي او الحزبي! إلى أن أعدم شنقاً أمام شعبه، ليصنع نموذجاً حيا في البطولة والفداء لا يموت إلى يوم القيامة.
لكني لا أستطيع ان أخفي مشاعر الحزن العميق تجاه أولئك الذين ورثوا هذه الجهود وهذه الدماء، و أقاموا أنظمة حكم استبدادية متسلطة، فاسدة ومتخلفة، لم تستطع صناعة النهضة لبلدانها، بل أصبحت استمراراً للحقبة الاستعمارية البغيضة، التي حولته الى استعمار داخلي أشد بشاعة وأعظم ضرراً؛ ما جعلت شعوبها تعيش الظلم والكبت والقهر والتخلف والفقر طوال ما يزيد عن نصف قرن مملوءة بالشعارات الفارغة التي لا تحمل مضمونا عملياً حقيقياً.
نحن الآن أمام لحظة فاصلة من عمر الزمن، بنبغي على الأجيال الجديدة أن تنتهز الفرصة، وأن تعي الدرس بـذكاء، وأن لا تكرر المأساة، وان تبتعد عن كل اشكال السطحية والتمسك بالقشور، وأن تمزج بين قيم الإيمان الاصيلة، والتمسك بالحق والفضيلة، وقيم الجهاد النيبل الذي يبتعد عن كل مظاهر الحقد والانحطاط والتشفي، كما يبتعد عن اثارة الفتنة الداخلية التي تبدد الطاقة والجهود الوطنية في معارك وهمية خاسرة! وأن تعمد إلى إيجاد الإطار الحضاري الواسع الذي يحترم كرامة الإنسان ويصون حريته وآدميته أولاً، ويجمع شتات الامة وشعثها، ويعلي شأن الحق والعدل القائم على العلم والفهم العميق ثانيا، كما فعل الشيخ عمر المختار رحمه الله ورحم كل الشهداء.
(الدستور)