يحتفل الأردنيون بعيد ميلاد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وهي مناسبة لا تخص المسيحيين من أبناء الوطن، فالإيمان بعيسى جزء من عقيدة المسلم، والسيدة مريم في اعتقاد المسلم هي خير نساء العالمين، فهي التي اصطفاها الله عليهن كلهن. لذلك خصها القرآن الكريم بسورة تحمل اسمها، بينما لم يفعل ذلك مع سائر أمهات المؤمنين، على فضلهن كخديجة، وعائشة، وحتى فاطمة بنت محمد، وهذه واحدة من دلائل الفرادة التي يحتلها المسيح عيسى بن مريم وأمه البتول في البناء العِقدي للمسلم.
ولأن للمسيح هذه الفرادة في التصور الإسلامي، في جانبه العِقدي على وجه الخصوص، كان للعلاقة بين المسلمين وأتباع المسيح ميزة خاصة، فهم أكثر الناس مودة للذين آمنوا، كما أكد ذلك القرآن الكريم. وهم أول من نسج معهم رسول الله محمد علاقة نصرة ومناصرة عندما أمر المسلمين الأوائل بالهجرة إلى الحبشة موطن المسيحية يوم ذاك. ومنذ فجر الإسلام ظل المسلمون يفرحون لفرح المسيحيين ويحزنون لحزنهم، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم:»غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون»(الروم:2-4)، والروم يومئذ هم حماة المسيحية، الذين انهزموا أمام وثنية الفرس، ليأتي القرآن مبشرًا بانتصارهم بعد الهزيمة وهو ما حدث بالفعل.
وبسبب هذه الفرادة في نظرة الإسلام إلى عيسى ومريم، ظل المسلمون والمسيحيون على مدار التاريخ أبناء وطن واحد، يتقاسمون حلو الأيام ومُرها، تمامًا مثلما يتقاسمون الأمكنة.. حتى تلك المخصصة للعبادة، فقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة المنورة بينه وبين نصارى نجران، يقيمون ويصلون في جزء منه، ويصلي المسلمون في الجزء الآخر، وكذلك اقتسم المسلمون والمسيحيون كنيسة يوحنا الكبير في دمشق.. كل يصلي في جزء منها.
ومثلما تجاور المسلمون والمسيحيون في بلادنا بأماكن العبادة، فقد تجاوروا في السكن وتقاسموا لقمة العيش، وتبادلوا الهدايا، وتشاركوا المناسبات. وبفضل هذا التجاور عرفت بلادنا معنى العيش المشترك، ومفهوم التعددية، قبل ان تعرفه أية حضارة في العالم. فإلى عهد قريب كان الأوروبيون يرفضون الاختلاف حتى داخل المذهب المسيحي الواحد. وليس بعيدًا عن ذاكرة التاريخ مرسوم شارل الخامس في إسبانيا الذي اعتبر كل من يخالفه، خاصة في رؤيته للعشاء الرباني هراطقة عاقبها الشنق، وتمزيق الجثة، ولوي اللسان.
بينما كنا نحن نتلو:»لكم دينكم ولي دين» و»لا إكراه في الدين» و»تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم».. وبفضل ذلك كله صار المسلمون والمسيحيون في هذه البلاد أبناء وطن واحد، لهم تاريخ واحد، ويتكلمون لغة واحدة، ويعيشون ثقافة واحدة، يصلي المسلم منهم في مسجده آمنًا، ويصلي المسيحي في كنيسته آمنًا، لكنه يصوم إن أراد مع المسلم رمضان. بينما يحتفل المسلم معه بعيد ميلاد المسيح، الذي لا يكتمل إسلام المسلم إن لم يؤمن به. لذلك كانت مواكب الاحتفال بعيد الميلاد تقام في حواضر الخلافة الإسلامية.
وكان الخلفاء والسلاطين المسلمون يشاركون مواطنيهم المسيحيين احتفالاتهم بأعيادهم كما وثقت ذلك المصادر التاريخية الموثوقة، وهي صورة نُحب ان نستذكرها ونسترجعها هذه الأيام، حيث يرتفع صوت التعصب والعنف المرتكز على الجهل والتخلف، وهما أعدى أعداء الإسلام؛ وأعدى أعداء المسيح رسول المحبة والسلام، الذي لا يكتمل إسلام المسلم إن لم يؤمن به ويصلي ويسلم عليه. فالسلام على عيسى في يوم ميلاده وفي كل يوم.
(الرأي)