لم تصمد الرئاسة التونسية طويلا.
فبعد أسابيع من نشرها تقريرا عن منظومة الإعلام والدعاية، إبان حكم زين العابدين بن علي، تحت اسم «الكتاب الأسود»، إذا بالرئاسة نفسها تعلن أنها ستفتح تحقيقا في كيفية تسرب الكتاب والأسماء.
تراجع الرئاسة عن التسريب مريب؛ فبعد أن خرجت شخصيات من الديوان الرئاسي على الإعلام تروج للكتاب الذي حوى قوائم وتفاصيل لشخصيات ومؤسسات عملت وتقاضت أموالا لتلميع وتظهير صورة بن علي، ولتعتبره أول كشف لمنظومة حكم الرئيس المخلوع، مع وعود بنشر أجزاء أخرى، ها هي الرئاسة تتراجع وتقول إنها تريد محاسبة المسربين.
والكتاب المعني تخطى صدى فضائحه تونس، إذ انشغلت المجتمعات الإعلامية في أكثر من دولة عربية وأجنبية بالتدقيق بالأسماء الواردة فيه، ومدى علاقتها بنظام بن علي، وما تقاضته من أموال، خصوصا أن معظم من وردت أسماؤهم عاملون إلى اليوم في الحقل الإعلامي.
لكن التراجع عن تسريب الكتاب، وإعلان أن تحقيقا يجري لكشف من سربه، لا يقل ارتباكا وإشكالية عن نشره.
صحيح أن «الكتاب الأسود» فيه كشف وتعرية مباشرة لجزء كبير من منظومة الدعاية لنظام بن علي، ويظهر تورط أسماء تونسية وعربية وأجنبية أيضا، لكن هذا الكتاب صدر عن مؤسسة الرئاسة التونسية، التي قررت أن تحاكم رمزيا الرئاسة التي سبقتها، مشهرة أن أول من يجب أن يتعرض للمحاسبة من العهد السابق هو الإعلام.
لم تنتظر الرئاسة مسار العدالة الانتقالية ليتبلور، فتأتي المكاشفات في إطار قضائي عادل، وحين قررت أن تحاسب، لم تبادر إلى فضح القضاء أو الأمن ووزارة الداخلية، ولا إلى منع سجن صحافيين ومعارضين، وهو أمر حاصل في عهد الرئاسة الحالية أيضا، ولم تفتح ملفات الإدارة المهترئة ولا فساد السلطة وبعض المستفيدين من رجال الأعمال. قفزت الرئاسة على كل هؤلاء لتصل إلى الإعلام، وكأن هناك رغبة في الهرب من مواجهة تعثر الرئاسة الحالي بحصر المشكلة في الإعلام.
ليس في هذا الكلام تقليل من أهمية فضح منظومة الدعاية في عهد بن علي، وفي الدور التجهيلي والتسطيحي الذي قد يمارسه الإعلام حين يُسخر لخدمة حكم ونظام أو أي منظومة تعسفيا. لكن هنا يبدو مقياس الأولويات لدى إجراء محاكمة، ولو رمزية، لعهد سابق أمرا ضروريا؛ فطبيعة الجهة التي تتولى المحاسبة والآلية التي تجري عبرها تحتاج أيضا لأن تكون عادلة وشفافة.
في تونس اليوم لا يزال يُسجن صحافيون ومدونون، ولا يزال للأمن قبضة تعسفية، فكيف لمؤسسة الرئاسة أن تتصدى لعطب في قطاع هو الأقل التصاقا بها مقارنة بالسلطات الأخرى، خصوصا الأمنية والقضائية والإدارية؟!
تراجع الرئيس منصف المرزوقي عن نشر الكتاب، وقال إنه يحقق في طريقة تسريبه. فردود الفعل حيال الكتاب جاءت قاسية وسلبية في حقه. لم يتحمل الرئيس تبعات خطئه. وها هو الإعلام يشهر اليوم في وجه المرزوقي مقالا كان سبق أن كتبه في مديح زين العابدين بن علي.
(الشرق الأوسط)