قبل اكثر من خمسة وعشرين قرنا كان اليونانيون ينقشون على شواهد القبور لمحاربيهم عبارة لا تمجدهم فقط بل تشمل من خانوا بالوعيد والنذير.. تلك العبارة هي.... العبيد لا يدافعون عن اوطانهم بل عن سادتهم، ولم يكن تجمع الفلاسفة وتلامذتهم حول قبر اكاديوس المحارب الذي تنسب الى اسمه الاكاديمية الا عرفانا واعترافا بمن ذادوا عن اثينا وصانوا حريتها.
اتذكر وانا اصغي الى العبارة التي نقشت على ضريح نلسون مانديلا وهي بالغة البساطة، لكنها تعيد للكلمات المستهلكة من فرط الاستخدام المجاني دلالاتها وهي هنا يرقد رجل قام بواجبه.. ولان كل ما قاله الرجل فعله وكل ما حلم به حاول ان يحققه فهو ليس بحاجة الى مديح مطلي بالبلاغة او الى مبالغات هو في غنى عنها.
عبارة القيام بالواجب تبدو في لغتنا وثقافتنا متقشفة وشحيحة البلاغة لكنها تختصر كل ما يمكن ان يقال عن انسان ادرك ما له وما عليه لكنه قدم ما عليه اولا فقد سجن وعذب واصيب بالشلل قبل ان يصبح رئيسا.
يقول مانديلا انه حين سمع الحكم بالاعدام الذي صدر ضده كان يشعر بالتعب والنعاس فأغمض عينيه لدقائق، ثم قال له السجان استيقظ كي تسمع جيدا الحكم الذي تستحقه، استيقظ فأنت سوف تنام بعد اليوم طويلا والى الابد.. عندئذ اجابه مانديلا بعبارة رفض لاسباب اخلاقية ان يكررها حتى باللغة الانجليزية، ويستطيع العربي ان يحزرها لانها غالبا ما تقال حين يستخف الانسان الباسل بجلاد نذل.
كانت القيمة الوطنية لدى الاغريق القدماء توأم الفلسفة ذاتها ولم ينج حتى افلاطون من تجارة الرقيق، ومعنى ذلك ان المعرفة لا تصلح ذريعة للخيانة، او حجة للتخلي عن الهوية كما يحدث الآن.
والعربي الذي يوصف في البنتاغون والبيت الابيض بانه مفكر او فيلسوف نال هذا اللقب بعد ان قال بانجليزية شكسبيرية انه يطرب لصوت الصواريخ وهي تقصف بغداد كما لو انه يصغي الى سيمفونية.
ولم يخطر ببال هذا المفكر الذي لو رفعنا ياقة معطفة عن عنقه لوجدنا عبارة تقول صنع في امريكا.. ان بريمر الذي كان يلعب دور المايسترو في ذلك القصف سئل عمن ابلغ عن موقع صدام حسين وولديه وحفيده.. فقال: نعم لقد اعطيناهم ما وعدنا به وهو مبلغ كبير من المال.
لكن حين سئل: هل تعرفت اليهم او رأيتهم اجاب على الفور دون ان يخفي تقززه: لا، لم ارهم ولا اريد ان اراهم، وهو يقصد بالطبع الوشاة الذين تقاضوا اجرا سخيا مقابل خيانتهم ولو ان بريمر قد تعلم العربية لقرأ ما كتبه السياب الذي حول الرصاص تمثاله الى غربال من برونز:
اني لأعجب كيف يمكن ان يخون الخائنون
ايخون انسان بلاده
ان كان يعقل ان يكون فكيف يمكن ان يكون؟
لقد كان الغزاة والمستعربون على حق في حالة واحدة فقط هي قتل جواسيسهم لانهم يستخدمون لمرة واحدة فقط وبقاؤهم احياء يعني امكانية اعادة استخدامهم ضد سادتهم اذا هُزموا..
(الدستور)