لقد شهدت الجغرافيا الأردنية وتاريخها ميلاد مملكتين الأولى منها نبطية (312 ق.م – 106 م) والثانية هاشمية منذ عام (1920م)، ومثلما كانت مملكة الأنباط سياسية تنموية تتربع على مفترق طريق القوافل القادمة من اليمن عبر سوريا ومصر والبحر الأبيض المتوسط، كانت مملكتنا الأردنية الهاشمية ولا زالت تحتل مركزاً جيوسياسياً واستراتيجياً وجيوبوليتيكياً مع كافة دول العالم وتنموياً هاماً أيضاً، وفي الوقت الذي حكم الأنباط عشرة ملوك (حارثة الأول، وحارثة الثاني، وعبادة الأول، ورب ايل الأول، وحارثة الثالث، ومالك الأول، وعبادة الثاني، وحارثة الرابع، ومالك الثاني، ورب ايل الثاني) وبنو تباعاً لنا ولهم مدينة سلع الشق والرقيم والتي سماها الرومان Petra وعنت باللاتينية (الصخرة) واكتشافها للعالم الرحالة السويسري يوهان لورفيك بيركهارت وشكلت صفة تاريخية وحضارية فريدة في العالم، وتحدث أهلها الآرامية ثم العربية، بنت لنا الثورة العربية الكبرى المجيدة التي انطلقت من مشارف مكة وأطلق رصاصتها الأولى وصهيل خيولها الشريف الحسين بن علي وجاءت ثائرة على نهايات الإمبراطورية العثمانية دولة إمارة شرق الأردن بعد هدوء نيران الحرب العالمية الأولى وبعد الدفع بالأمير عبد الله الأول لتقدم الثورة التي استقبلها واعد صحراء مدينة معان لها رجالات الأردن الأوائل (عودة أبو تايه الحويطات، ومثقال الفايز، ومحمد العجلوني، وغيرهم).
لقد ارتبط تأسيس إمارة شرق الأردن والمباشرة بالعمل التنموي رغم صعوبة الظروف السياسية المتلاطمة (حيث المد العثماني والانجليزي والفرنسي والصهيوني في العتمة) المواجه لثورة العرب بوصول الأمير عبد الله بن الحسين وزير خارجية الدول العربية في الحجاز وبدعوة من أعيان الأردن وأعضاء حزب الاستقلال القادمين من سوريا بعد معركة ميسلون 1920م، ومكثت رحلة الأمير عبد الله تجاه الأردن قادماً من مكة 27 يوماً بالقطار بصحبة حاشيته وحرسه، وصلت تطلعات سموه آنذاك لتحرير سوريا من الفرنسيين أيضاً، لكن المراسلات الفرنسية مع ملك الحجاز الحسين وضعت حداً للقبول بحكومة شرق الأردن بواسطة وزير المستعمرات تشرتشل وإلغاء كافة الحكومات التي تشكلت في البداية مثل (دير يوسف، وعجلون، وجرش ، والكرك، والطيبة، والسلط)، وجاء الاستقلال الأول 15 أيار 1923م ليشكل إنجازاً تنموياً كبيراً في عهد بناء الإمارة وبعد معاهدة مع بريطانيا، وأول مراحل الإصلاح أتت بعد تشكيل (مجلس الشورى) الديمقراطي، لكن بريطانيا ألغت مشروع دستور 1928م لتبقي سيطرتها، ثم وافقت على مجلس تشريعي منتخب عام 1928م وتشكيل حكومة وطنية تبقي على الصداقة معها برئاسة رشيد طليع، وتم التركيز على التعليم والزراعة ومواجهة القحط واستيراد البذور وإنصاف الأردنيين بالوظائف، وبعد عام 1931م تحرك الشارع الأردني مطالباً بإلغاء المعاهدة البريطانية وهو ما واجهته بريطانيا بواسطة إغلاق الصحف ومنع غيرها من الدخول والتخفيف من الضرائب في عهد حكومة عبد الله سراج.
من أهم انجازات الأمير عبد الله الأول وفي ظل ظهور وهج الأحزاب الأردنية الوطنية مثل (الإخاء) و(المعتدل) و(المؤتمر الوطني) و(الاستقلال) هو إقناع الإنجليز بأبعاد الأردن عن وعد بلفور الذي تسلل مع الزمن القادم تحت مسمى (الوطن البديل) لكن الفلسطينيين رفضوه قبل الأردنيين وكل العرب، ونظراً لوقوف الإمارة إلى جانب إنجلترا في الحرب العالمية الثانية استطاع الأردن انتزاع استقلاله بالكامل عام 1946م وأكبر انجاز تنموي تحقق في عهد الملك عبد الله الأول المؤسس هو استقلال الأردن رسمياً تاريخ 25/5/1946م وتكريس نظام الحكم الملكي الوراثي فيه نسبة للهاشمية من بني هاشم المنحدرين من أصولهم من هاشم الجد الأكبر للرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
عهد عظيم الأردن الراحل الحسين طيب الله ثراه كان الأطول حيث استمر 46 عاماً بحجم السنين التي احتاجها الأردن لكي يستقل، وكانت فترة حكمه مليئة بالانجازات التنموية التي لا زال الأردنيون يتغنون بها والجامعة الأردنية ومدينة الحسين الطبية ومطار الملكة علياء الدولي ومؤسسة نور الحسين صانعة مهرجان جرش العالمي، والبنوك العملاقة، وقناة الغور الشرقية ومخزون الفوسفات 204 مليون طن فقط عام 1975م وشبكة الطرق، وغيرهم الكثير.
خير شاهد، وأكبر نصر سجله الأردن باسم كل العرب في الكرامة عام 1968 حمل اسم جلالته إلى جانب قادته الكبار، وساهم في صياغة قرار الأمم المتحدة رقم 242 الذي لا زال حاضراً كمرجعية للسلام ومفاوضاته المستمرة، وكان له دور مؤثر في مؤتمر مدريد 1991م ، ونجح جلالته رحمه الله في توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل تحت عطاء دولي لتثبيت حصتنا في المياه ولترسيم حدودنا وللجم الحراك الصهيوني المشبوه المسمى بـ(الوطن البديل) ودفنه للأبد، وفي المقابل لا زالت المعارضة الوطنية الأردنية غير منسجمة مع مسار العلاقات الأردنية الاسرائيلية الرسمية في ظل غياب السلام العربي الشامل والعادل وهو حق طبيعي نحترمه، وترك رحيله أثراً بالغاً في نفوس الأردنيين حتى الساعة، وكانت جنازته هي الأضخم في تاريخ الشرق الأوسط والأكثر هيبة ووقاراً.
العمل التنموي استمر على قدم وساق في عهد سيدنا جلالة الملك عبد الله الثاني منذ تسلمه زمام العرش عام 1999م، وبدأ استثماره بالإنسان الأردني على خطى والده الملك الراحل الحسين الذي رفع شعار زمانه (الإنسان أغلى ما نملك)، وقاد جلالته بنفسه مسيرة التمكين الديمقراطي ومواصلة البناء على ما تم بناؤه، وتأهيل المواطن الأردني لدخول سوق العمل بجدارة بعد الاستفادة من مخرجات صروح العلم الجامعية التي تقارب الثلاثين جامعة ومعهد ومن المد السنوي المتواصل لطلبة الثانوية العامة البالغ عددهم مليون طالب كل سنة، ووضع كل ثقل إيمانه بقدرة الشباب (فرسان التغيير) على العمل والبناء دون كلل أو ملل، واختط للأردن سياسة الاعتدال والتوازن في السياستين الداخلية والخارجية، وارتكز في شرعيته في ملكه ونسبه على الإسلام المعتدل والإنجاز والعدل في ظل إمكانات الدولة الشحيحة، يقول جلالته: (( على المسلمين في هذه الأيام أن يجاهروا بجرأة دفاعاً عن إسلام معتدل: إسلام يعزز قدسية الحياة الإنسانية، يصل إلى المضطهدين، يخدم الرجل والمرأة على السواء، ويؤكد على أخوة الجنس البشري بأكمله، فهذا هو الإسلام الحقيقي الذي دعا إليه رسولنا الكريم، وهو الإسلام الذي يسعى الإرهابيون إلى تدميره)).
العمل التنموي الأردني بالكامل غير ربحي ولا يعتمد على خزينة الدولة ويقوده الملك عبد الله الثاني بنفسه من خلال (صندوقه التنموي) ومن خلال الإشراف المباشر على العديد من المشاريع التنموية الأخرى الحيوية، وجلالة الملكة رانيا العبد الله تشرف على مؤسسة نهر الأردن وغير ها من الأعمال الخيرية المدرسية، وأصحاب السمو الملكي بسمة بنت طلال وتشرف على الصندوق الخيري الهاشمي، ورعد بن زيد يشرف على مؤسسة ذوي الاحتياجات الخاصة والتأهيل الرياضي لهم، ودينا مرعد وتشرف على مؤسسة الحسين للسرطان، ودور ريادي في المؤسسة لغيداء طلال، وراشد بن الحسن في رئاسة مجلس أمناء الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، والعديد العديد غير ذلك، والهدف هنا هو سد الفجوة بين القيادة والشارع وإثبات نظرية الجسم الواحد وتشكيل حالة سياسية وإنسانية فريدة من نوعها بالمنطقة والعالم.
أهم المشاريع التنموية الضخمة التي نفذت وستنفذ في عهد الملك عبد الله الثاني هي الديسي المائي المتوقع أن يضخ 100 مليون متر مكعب من المياه إلى العاصمة والمحافظات كافة، والنووي السلمي بالتعاون مع الفدرالية الروسية وتحت إشراف لجنة استثمارية دولية، وهو الأمر الذي سيفيد الأردن في مجالات الطاقة الكهربائية وتحلية المياه وغيرها، ومشروع آمن ولا خوف مستقبلي منه حسب العلماء الروس وخبراتهم الطويلة، وناقل البحرين الأحمر والميت المفيد في مجالات الطاقة الكهربائية والمائية خاصة الصالحة للشرب منها، ومن شأنه إنقاذ احتمالات اندثار البحر الميت بعد نصف قرن وتحوله لا سمح الله وقدر إلى وادي مالح جاف ضارب للتنمية ومنها السياحية الهامة وخاصة العلاجية، وحجم المياه التي ستصل إلى البحر الميت من الأحمر تقدر بـ 700 مليون متر مكعب عام 2060م، وسوف يستفيد الأردن من ربطه بشبكة الطرق الدولية الحديثة البالغ إجمالها 31.400 كم2، والله المستعان وهو من وراء القصد.