الأسلمة والتسوية والجغرافيا
د. باسم الطويسي
21-12-2013 03:47 AM
مع بدء عملية التسوية السلمية في تسعينيات القرن الماضي، ازدادت الدعوة إلى بلورة مشاريع جديدة لصياغة المنطقة، بهدف استيعاب إسرائيل جغرافياً وحضارياً وسياسياً، بأدوات الاقتصاد والتنمية.
وانصب التركيز على التعاون العربي-الإسرائيلي، وشجعت الولايات المتحدة دعم مشروعات وخطط التكامل الاقتصادي التي تلعب إسرائيل فيها دور العقل ومركز التحكم، فيما يؤدي العرب دور المزود بالطاقة والموارد الطبيعية والبشرية.مع تعقد المشهد السياسي والأمني في المنطقة، تراجعت فكرة السوق الشرق أوسطية.
وفي الحقيقة، ربما كانت المخاوف الإسرائيلية الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية، أكثر من المخاوف العربية، على الرغم من ارتفاع أصوات المعارضين العرب على من سواهم.
واليوم، هل تبدو فكرة أسلمة الشرق الأوسط الاسلامي مدخلا للتسوية، وإعادة صياغة الجغرافيا الكبيرة؟ بقدر ما تبدو الفكرة بعيدة، بقدر ما قد تقود في نهاية المطاف إلى ما عجز عنه الجميع؛ أي القدرة على الحسم.
في القراءة الراهنة للمسار التاريخي للشرق أوسطية و"المتوسطية" وصولاً الى الشرق الأوسط الكبير، نجد ثمة تغيراً يقودنا إليه مسار الأحداث. ويجب القول إن الجديد في تاريخ الأفكار حول الجغرافيا السياسية للمنطقة، هو الاعتراف الضمني الذي تحمله المشاريع الجديدة بالهوية الثقافية للجغرافيا السياسية المطروحة، وهي الثقافة المعبّر عنها بالإسلام. فالغرب يدرك تماما أن القوى السياسية المحافظة، وأحيانا المتطرفة، هي الأكثر قدرة على الحسم في كثير من الثقافات؛ وهكذا حدث حتى مع الإسرائيليين.
كان لدينا ثلاثة مشاريع لإعادة صياغة المنطقة. أولها، المشروع الأميركي تحت عنوان الشرق الأوسط الكبير، والذي يحظى بمباركة ضمنية من إسرائيل، ومعارضة شعبية عربية.
ومشروع أوروبي عربي لا يمكن تجاهله، يحث على الأمن والتنمية والهوية على ضفتي البحر الأبيض المتوسط، لكنه لا يحظى بترحيب أميركي، ويلاقى باحترام عربي شعبي ومدني، وبرود رسمي. أما المشروع الثالث، والمعني بذات الجغرافيا التي يبحث عنها مشروع الشرق الأوسط الكبير، فهو مشروع الأصولية الإسلامية التي يتعدد آباؤها.
هل يبدو أن هذه المشاريع خُلطت في مشروع واحد بنكهة الأخير؟ في حين تفتقد الأنظمة الرسمية العربية والإسلامية أي وفاق أو محاولات للأقلمة، ولو في أبسط ملامحها السائدة على الأرض، أي الثقافية والحضارية؛ وإذ يذهب المشروع الأوروبي حذراً نحو تعميق روابط التعاون التي تضمن بناء جسور من الثقة وحفظ المصالح بين الدول المطلة على "المتوسط" ونزع فتيل التوترات وإيقاف أي مد للعنف باتجاه الشمال الأوروبي، فإن المشروعين الأول والأخير يتفقان في محور جوهري، هو إصرار الطرفين على نسف الأوضاع القائمة في الشرق الأوسط الإسلامي، وإعادة تشكيل العالم انطلاقاً من هذه المنطقة.
إن مصدر الصراع التاريخي حول الشرق الأوسط يكمن في إغراء الجغرافيا السياسية، والقيمة الاقتصادية المضافة لها.
وفي كل حلقة تاريخية من حلقات الصراع، منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، كانت مضامين وخطابات الصراع تتغير، إلا أن الجغرافيا تبقى ثابتة.
وإذا كان القدر التاريخي للشرق الأوسط أن يُضطهد بنقمة الجغرافيا أكثر من أن يهنأ بنعمتها، فإن الصراع حول الأرض وما في باطنها، والمياه حولها، يبقى يأخذ لون الهوية في كل مرحلة. ويبدو أن جميع الأطراف باتت تتعامل في هذه المرحلة مع المكون الثقافي الذي طالما تم تجاهله.
فالشرق الأوسط الكبير في العيون الأميركية اليوم هو الشرق الأوسط الإسلامي؛ ولكن أي إسلامي؟ ربما هذا هو الأمر الأكثر حرجا، والذي يحتاج إلى رؤية جديدة وأدوات مختلفة في التعامل معه. وهو ما سيبرز خلال المرحلة المقبلة.
(الغد)