من المنتظر ان تُجرى اليوم انتخابات غرف التجارة الأردنية، واللافت للنظر في هذه الدورة من دورات الانتخاب ضخامة الحملات الانتخابية، خاصة في جانبها الإعلاني المكلف، مما لا يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية وشكوى التجار من ضيق ذات اليد من جهة، ومع ما هو مألوف تاريخيًا في مثل هذه الانتخابات. فما هو المستجد الذي أدى إلى هذا التغيير في نمط وسلوك المرشحين وحملاتهم الانتخابية؟ هل هو الخوف والقلق الذي انتاب بعض الكتل الانتخابية فأرادت ان تدفع الطمأنينة إلى قلوب أعضائها من خلال تكثيف حضورهم الإعلاني؟ أم هو الإحساس بأن بعض أعضاء هذه الكتل غير معروفين للهيئة العامة فجرى التعريف بهم عبر نشر هذا الكم الهائل من الصور في الميادين والشوارع والساحات العامة؟ أم هو الإيمان بالإعلام والإعلان وقدرتهما على الوصول إلى قلوب وعقول الناس والتأثير على اتجاهات تصويتهم؟ أم هو ذلك كله؟ وفي كل الأحوال فإنها ظاهرة تستحق الدراسة، خاصة من قبل علماء الاجتماع وخبراء الإعلام؟.
ليست طبيعة وحجم الحملات الانتخابية لغرف التجارة هو موضوع هذا المقال، لكنها مجرد إشارة أردت الدخول منها إلى ما هو أهم، أعني برامج المرشحين، وخاصة الكتل فقد أتيح لي الاطلاع على معظمها فلاحظت أولاً: اشتراكها جميعها في التركيز على الجانب المطلبي، وعلى الوعود بتحقيق المزيد من المطالب، والحقوق للتجار، وهذا أمر طبيعي ومنطقي.. لكن ما هو ليس طبيعيًا ولا منطقيًا هذا الخلل في المعادلة بين الحق والواجب. فإنه مثلما للتجار حقوق فإن عليهم واجبات نحو مجتمعهم، كان على البرامج الانتخابية ان تتضمنها وهو ما لم تفعله، باستثناء كلمات دُست على استحياء في بعض البيانات الانتخابية عن دعم المجتمع المدني، بينما كان المأمول ان يستذكر ويتذكر المرشحون أهمية توعية التجار إلى دورهم في خدمة المجتمع وتنميته، لأن هذا الدور جزء من الدور الحضاري للتجار، خاصة في تاريخنا العربي الإسلامي، الذي لعب به التجار دورًا محورياً ومفصليًا في تحقيق النهضة الحضارية للأمة من خلال خدمة المجتمع وبناء وعيه.
فأي متأمل للتاريخ العربي الإسلامي سيجد دون كبير عناء أن أموال التجار من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمثال أبي بكر وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، كانت أكبر دور وأعظم أثر من دور وأثر جيوش الفتح، بل لعله في كثير من الأحيان ما كان لهذه الجيوش أن تخرج لأداء واجبها لولا دعم التجار لها بأموالهم. بل وأكثر من ذلك كله، فإن بلادًا بأكملها فُتحت وانتشر الإسلام بها دون ان يصلها مجاهد واحد لكنها فُتحت لحسن أخلاق وتعامل التجار، مثلما هو الحال مع اندونيسيا، وماليزيا وغيرهما من البلاد التي دخلت محراب الحضارة الإسلامية من بوابة التجارة والتجار الذين كانت لهم الأيادي البيضاء على مجتمعاتهم عندما حافظوا أولاً على منظومة القيم والأخلاق، خاصة في جانب الرحمة والصدق والأمانة والإيثار، ثم عندما سخروا أموالهم لإقامة المدارس والجامعات، والإنفاق على الطلبة وعلى العلماء وعلى إقامة المستشفيات، وغيرها من سُبل النهوض بالمجتمع عبر نظام الوقفيات الإسلامية التي قامت على أكتاف التجار الذين امتلكوا الرؤية الحضارية الثاقبة، والرؤية الاقتصادية الحقيقية التي تقول: إن المجتمع المستقر الآمن هو المجتمع الذي يزدهر اقتصاده وتجارته على وجه الخصوص.
لذلك كان التجار يتسابقون ويتنافسون في خدمة مجتمعهم وهو ما كان عليه الحال في الأردن لعقود قريبة، عندما كان تجار الأردن، يتسابقون على إقامة المشاريع الإستراتيجية كالمدارس على غرار الكلية العلمية الإسلامية، والمشاريع التنموية كشركة الكهرباء الأردنية، وشركة كهرباء إربد، وشركة مصفاة البترول، وغيرها من المشاريع الريادية التي أقامها أو ساهم في إقامتها الرعيل الأول من تجار الأردن الذين كانوا يمتلكون إرادة البناء عبر البذل والعطاء خدمة لمجتمعهم، وكانوا يؤدون واجباتهم نحو هذا المجتمع قبل أن يطالبوا بحقوقهم، فقد فهموا معادلة الحياة على انها أخذٌ يقابله عطاءٌ، وهي الروح التي افتقدناها في معظم البيانات والبرامج الانتخابية التي تُجرى انتخابات اليوم على أساسها والتي نتمنى من الذين سيفوزون بها العمل على تصحيح المعادلة وإعادتها إلى طبيعتها أخذًا وعطاء، حقاً وواجباً.. فبدون هذه المعادلة لن يستقر المجتمع، وبدون مجتمع مستقر لن يزدهر اقتصاد، ولن تربح تجارة.
(الرأي)