عابر حياة - جلسات النميمة بدأت
ثريا الشهري
19-12-2013 05:13 PM
في هذه الأيام كثير من أبنائنا المبتعثين عادوا من بلاد ابتعاثهم إلى السعودية لطول إجازة الكريسميس الموصولة برأس السنة الميلادية. وهي فرصة للتواصل القريب مع أهل الوطن وأصدقائه، عوضاً عن خدمات «النت» وبرامج اللاسلكي. ولكن اللقاء بعد طول غياب، وبخاصة لمن قرر الدراسة في فصل الصيف فلم يتمكن من اللحاق بأهله في شهر رمضان، هذا معناه أنه بإجازة الأعياد المـــيلادية هذه يكون قد شـارف على قرابة السنة لم تطأ فيها قدماه أرض الوطن. وها هو اليوم في زيارة قصيرة بإحســاس بالغربة لا يُفــسّر. فكأنه الجــديد وســط دائرته. يشارك في الأحاديث بطرف لسانه ولا يشعر بانتمائه إلى ما يقال أو يدور من حوله.
إنها الشكوى التي سمعتها على اختلاف الجنسين. وكلاهما يستغرب نفسه بعد أن كان في السابق أول من يشارك اجتماعياً في كل ما يستنكره وينتقده اليوم.
من الأمور الطريفة ذات المدلول ملاحظة الأختين المبتعثتين حين سرحا بتفكيرهما واسترجعا سنة دراسية كاملة انقضت لا تتذكران فيها أنهما اجتمعا على النميمة أو تقطيع السيرة الذاتية لفلانة وعلانة. ليس بسبب أوقات الفراغ الشحيحة وهي كذلك، ولكن لانتفاء الرغبة في ذلك، على رغم وجود الأختين في الشقة نفسها آخر النهار وبدايته. طبعاً لا مانع من بعض الملاحظات العابرة عن هذا المدرس وتلك المعلمة. ولكن إجمالاً وبشكل عام ثقافة «الحش» وتخصيص الوقت للسمر حول أخبار البشر وظروفهم الشخصية لم يكن لهما وجود ولا جمهور في دنيا فيها من الأنشطة ما يغني عن هدر الثرثرة، في دنيا لا تدين بهذه الثقافة ولا تشجع عليها... فهل يعني هذا أن دنيانا هنا خالية من الأنشطة والفعاليات والحياة العملية التي تغني عن إضاعة الوقت في ما لا طائل منه على الإطلاق؟ ولكنها ثقافة التنّدر على أخبار الغير والتقطيع في سيرهم هو ما يسلينا، وصار وكأنه المكمِّل لكل اثنين هذه أحاديثهما.
أمّا استغراب أبنائنا من تغيّر أحوالهم ونفورهم مما كانوا يمارسونه قبل سفرهم وابتعاثهم، فأبشرهم أنه لن يطول. فبمجرد رجوعهم سالمين غانمين بشهاداتهم بعد تخرجهم، فإنهم سيعودون تدريجياً إلى سابق عهدهم بالنميمة، بل سيخلقون المناسبات لها ولجلساتها. ذلك أن تأثير الوسط الغالب أقوى في ثقافته من السلوكيات الفردية المتفرقة، إلاّ إن اجتمعت هذه الفرديات وكوّنت بأعدادها فريقاً مجتمعاً من المتفرقين الجدد. لهم الاهتمامات نفسها، والميول والأساليب ذاتهما في التعاطي مع الحياة والناس.
في مطار الرياض، وعند تسلم حقائب السفر اكتشف البعض أن حقيبته لا تزال تربض في أرض المطار الأجنبي العائد منه. وهو سوء تنظيم يعود بمسؤوليته إلى إهمال خطوط الطيران التي تكون على متنها. فصدرت تعليمات مطار الرياض لهؤلاء الطلاب بالسؤال عن حقائبهم في اليوم التالي، لعلها تكون في طريقها إليهم مع الرحلات القادمة. فلم يكن أمام الطالب الذي لم يكن محظوظاً بوجود حقيبته إلاّ الإذعان للأمر، فانتظاره في المطار لا جدوى منه. وهذا ما كان.
تُحدِّث الطالبة المبتعثة بحوار سمعته بين الطالب وصديقه قبل الخروج من بوابة المطار: «وكيف سنعود إلى هنا ثانية ونجتاز نقطة التفتيش بورقة تسلُّم الحقيبة؟ لنعد ونسأل الموظف: كيف العمل؟». التساؤل والمؤشر على تشغيل العقل في أبسط الأمور. فلا تأخذ الظروف والمواقف على علاتها أو بحسن نياتها. إنه التعليم الذي يكتسبه أبناؤنا في الغربة وعند التعامل مع مختلف القوانين والتحديات، وأحياناً الطوارئ. «فاسأل تسلم». أمّا الافتراض من عندك، والتخمين بالشبه وبما وقع لغيرك وسرت على دربه كما هو من تلقائك. هذه الطريقة في التفكير قد تكلِّف صاحبها، وربما لا تتح له فرصة التعويض عن خطأه وسذاجته. وكل مبتعث لديه مجموعة من الكلمات الحساسة التي توقظه من سباته ومنها: تأخير، ختم، توقيع، جواز، رسوم، دفع، فيزا، «آي تونتي» «ديدلاين». وجميعها مفردات تحذيرية تدِّرب على النباهة والتفكير السريع. وبالمناسبة كان بودي أن أجيب الطالب الحريص. إلا أنه سيجتاز نقطة التفتيش بأية حال. فأهلاً به في مطارنا بين الفزعات.
(الحياة اللندنية)