لم يخطر لي يوماً أنني سوف أكتب عن مي عريضة. عالمان، كل منهما في قطب. أريستوقراطي منذ ما قبل انضمام بيروت إلى لبنان، ومتوسط. ولا حاجة إلى تفاصيل أخرى. عندما كنا ننزل، صبياناً، من هضبة الأشرفية إلى حي السراسقة، لم نكن حتى نتطلع إلى علامته، قصر سرسق. لا شأن لنا، ولن يكون. أو كما قال شاعركم الطغرائي في "لاميّة العجم":
"فيم الإقامة بالزوراء لا سكني
بها ولا ناقتي فيها ولا جملي"
في آخر سنواتها في الجامعة اللبنانية قالت زوجتي إن رفيقتين لها (بيولوجياً) سوف تأتيان لمذاكرة الدروس. إحداهما، كانت فتاة ميَّالة إلى الصمت والخفر، تُدعى جمانة سرسق. فوجئنا بتواضع ابنة القصر، وباختيارها للمراجعة شقة لا تزيد على 120 متراً في السيوفي. المفاجأة الأخرى كانت أن ابنة مي عريضة هي الأكثر حرصاً على الدرس كأنما تريد شهادة تعمل بها في المستقبل.
انتهت السنة الجامعية بنجاح الدارسات الثلاث. وبعد فترة قُرع الباب وإذا جمانة حاملة بطاقة دعوة إلى عرسها. بعد انصرافها قرأنا الدعوة فإذا هي تحمل كل اسم في لبنان يبدأ بـ DE في خليط من الاريستوقراطية اللبنانية والفرنسية واليونانية (الأصل السرسقي) وخلاف ذلك. قررنا، طبعاً، أن نعتذر، متذرّعين بالسفر. فسوف نبدو غرباء في هذا المهرجان، وسوف يكدّني العرق كلما صافحني كونت أو ليدي.
كانت مي عريضة تملأ لبنان، بحضورها وجمالها. وذات مرة ظهرت في صورة واحدة مع غريس كيلي فبدت أميرة بيروت أكثر ألقاً من أميرة موناكو. وكل هذا كان ضدنا، نحن الذين نكتب ضد النظام ونؤيّد اضرابات العمال وشقاوات الطلاب، الهواة منهم والمدرّبون. ولم يكونوا قد بدأوا بعد بإطلاق النار، لا في الهواء، ولا على الرِّكب، كما في العار الذي حدث لطرابلس.
بقيت على حذَري من الاريستوقراطية والاريستوقراطيات، والاريستوقراطيين. وبقليل من الصراحة أفضّل القول، بقيت على خوفي، وعلى عُقَدي. وكنّا نشعر بأكثرنا، أن علينا أن ندافع عن بسطائنا وعن أنفسنا، حيال المجتمع الموازي، المليء برجال أثرياء لا يظهرون في مكان، وسيدات جميلات يملأن ساحات الضوء. وذات مرة قلت للصحافي الراحل سليم اللوزي، كيف لمجلة سياسية طارحة القضايا مثل "الحوادث" أن تخصص قسماً كبيراً من صفحاتها لأخبار المجتمع، فوقف عن كرسيه كعادته وقال: "وماذا أفعل إذا كان كل الخليج يريد أن يرى صور مي عريضة؟".
كانت وجه بيروت الناطق القَسَمات، الخفيض الصوت، فيما كانت العاصمة تغريدة عالية. وكانت سيدة القصر، على طريقتها، وبما تعرف، الأكثر اجتهاداً في رسم صورة لبنان، كما تُحب. العام 1955 قال لها كميل شمعون (الماغازين) أريد أن أفعل شيئاً عظيماً لـ بعلبك، فقالت ابنة "الشبيبة الموسيقية"، فلندع القلعة تغني.
لم يبق اسم برّاق في الغرب إلاّ وأراد أن يضمّ إلى سيرته، ليلة الأداء في بعلبك. وصار للفرق اللبنانية الكبرى ولفيروز مسرح من أعمدة وحجار، وليس خشباً فقط. في كتابه "مي عريضة، حُلم لبنان" يجمع نبيل الأظن بين دفتين، سيرة نجمة، أو فراشة، دفعتنا برفق إلى عالم جميل(1). مارست مي عريضة، في هدوء وعذوبة وألَق، أهم حقوق المرأة: العمل.
وكانت أبواب السياسة مشرَّعة أمامها، فردّتها. وإذ نتطلع اليوم إلى حصاد مهرجانات بعلبك نرى أن المهرجان كان عمودها السابع. ما كان يبدو أمراً عادياً يومها لشعب "مظنطر" ومتأفّف وساخر من كل شيء، كان في الحقيقة صورة بهيَّة إلى الخارج: بقايا التاريخ مع طلائع الحداثة. الشرق والغرب نافذتان متجاورتان على أفق حضاري يكاد يكون واحداً. كل حضارة انفتاح. الجهل قفل.
كانت تلك مرحلة ترفيع المستوى الثقافي في لبنان، وبدء عصر النهضة الجديد، في المسرح والأدب والعلوم، وقد تصدّرته المرأة بلياقة متقدمة، سلوى نصار (علوم) وإميلي نصرالله وليلى بعلبكي وسعاد نجار وفيروز، ثم علياء الصلح في السياسة والشجاعة. ولم يعد المسرح والسينما وقفاً على محترفي التمثيل بل أطلَّت من الجامعات لطيفة ملتقى ورضا خوري ونضال الأشقر.
وكما حمل اللبنانيون المسرح الأول إلى مصر مع مارون النقاش وفاطمة اليوسف، بدت تلك المرحلة وكأنهم يستعيدون جزءاً منه وليس مسرح الملهى، على سلواه وجماله ولذائذ لياليه، وإنما مسرح العمق وإغريقيات الفكر. وأي إطار أعظم من إطار بعلبك.
"الحقبة الجميلة" التي عاشها الفرنسيون في العشرينات، عاشها لبنان حتى منتصف السبعينات. أعذب علاماتها كانت صوت فيروز وقسمات مي عريضة. الزمن الحالي هو أقسى أزمان التقهقر العربي في تاريخ المرأة. يضطهدها المحدِثون لا القدماء، وإذ يطلّ الربيع الكذاب، لا نراها أكثر من وعاء في "جهاد النكاح"، أو أي تسمية زائفة للشَبَقين، الجنس والقتل. لم تكن المرأة السورية أقل شجاعة وموقعاً من المرأة اللبنانية، ولا أقل علماً وتقدماً. كم هو محزن ما يحلّ بها في عراء الضمير وعراء المخيمات وعراء الثلج وغطاء الجهاد.
ما هذه الأمة التي لا يحرّك فيها ساكن رؤية الإسرائيليين يبنون مستعمراتهم والسوريين يبحثون عن مخيمات؟ ما هذا الكون الذي ليس عنده مَن يُرسل إلى سوريا سوى الأخضر الإبرهيمي، مرة كل سنة؟ كان لبنان في "عصر بعلبك" عكس هذا الزمن الجائر، المليء بشهَّاد الزور وشركاء الظُلم.
أنا آسف، بأعمق وأمرّ وأودع ما يكون الأسى، لأن البعض يسأل دوماً، أليس لديك سوى ميلانكوليا الحاضر ونوستالجيا الماضي؟ أين ذنبي في الأمر؟ هل أنا مَن صنَع جمال الماضي، أو مَن أحاط باليأس والبَلاء هذا الحاضر؟ سألني قانوني كبير ألتقيه للمرة الأولى: "ما هي رسالتك في ما تكتب؟". قلت، لست صاحب رسالة، أنا مجرد كاتب مقال. وأود أن أقول ذلك أيضاً للذين يسألون في بريد "النهار"، لماذا لا تقدّم حلولاً بدل أن تنتقد؟ أنا مواطن عادي أريد حلولاً. وأريد أن أتطلع حولي فأرى رجالاً من الحاضر أحبهم.
وإذ أبحث بمشقة عن موضوع ليس فيه نوستالجيا ولا ميلانكوليا، أتمنى أن أعثر على مي عريضة من جيل أبنائي، منخرطة في صناعة لبنان جميل، هانئ، ويطلع إلى بعلبك ليحضر "جبال الصوان" ويرى منصور الرحباني بالعباءة، يمثّل دور نفسه، يوم كان معّازاً عملاقاً "يهدّ" على الذئاب والواوية لإبعادها عن قطيعه وغنماته.
ليس كل هذا القحط مسؤوليتي. ولا غياب الذوق العام. ولا حدِر الخطاب السياسي وسوقيّته. ولا تسويق الموت والقتل. وأنا مهزوم آخر، أمام جحافل الخواء. وبسبب هزيمتي أكتب عن مي عريضة. لكننا مختلفان. لا أنا من أهل الزوراء، ولا هي تحفظ لامية العجم أو لامية ابن الوردي. لا تظنّن أنني لا أبحث لجنابكم عن جماليات في هذا الحاضر، أكتب عنها. ماكو. كلِّش ماكو. سقطت الأمة فسقطنا معها. خيمة واحدة وانهارت. كان صدام حسين الأكثر شجاعة على اختصار صورة المرحلة عندما قال "القانون هو ما أكتبه على قصاصة من الورق".
ما كتَبَته مدرسة الحقوق الرومانية حوّلته وزارة الثقافة عقاراً يُبنى عليه، وإن كان لا يعوَّل عليه. وقد قال ابن عربي، ما لا يؤنّث لا يعوَّل عليه.
فازت هذا الأسبوع سيدة اشتراكية برئاسة تشيلي. السباق كان بين سيدتين. وفي الارجنتين المجاورة، الرئيسة امرأة. وفي البرازيل الكبرى، الرئيسة امرأة. دول كانت إلى الأمس مرتعبة تحت جزَم العسكر. من تروخيو إلى بينوشيه. الآن تسلِّم أميركا اللاتينية أمرها، ليس فقط إلى المدنيين، بل إلى المرأة فيهم. المجتمعات المتقدّمة تُعدّ أناساً متقدّمين. مجتمعات الفقر تُعدّ حُواة وسحَرة وركاباً إلى الجنَّة عبر حاجز الجيش على مدخل صيدا. في روايته الأخيرة، "حي الأميركان"، يصف جبور الدويهي كيف تُصنع أفواج الانتحاريين في الأكواخ وكيف تصدَّر. عندما يُقال "الحقبة الجميلة" يُقصد بها ازدهار معالم الترقّي والتلاقي. ذات زمن التقى لبنان على أدراج بعلبك. يلتقي الآن على أعتاب الجاهلية.
(النهار اللبنانية)