من يوقف النزعات الانتحارية؟
عرفان نظام الدين
05-02-2008 02:00 AM
نعيش هذه الايام موسم معارض الكتاب من بيروت الى القاهرة ومن لندن الى الرياض وسط كساد ثقافي وانهيار شبه كامل في شتى المجالات الفكرية والثقافية العربية وابتعاد الأجيال عن نعمة القراءة والتعلم من دروسها وفوائدها وعبرها.أول كلمة في القرآن الكريم كانت «إقرأ» كتوجيه إلهي الى الطريق القويم، ولكننا لم نلتزم بها وبدأنا نهملها كلياً بعد ان طغت عادات سيئة لا تنتج سوى فقاعات زائلة مع زبد يذهب جفاء. وأخشى ما أخشاه ان يصح علينا القول المغرض الصادر عن الاسرائيليين، وهي أننا أمة لا تقرأ وإذا قرأت لا تفهم وإذا فهمت لا تستوعب الدروس.
ويقول هيغل: «ان التاريخ علمنا أننا لم نتعلم من التاريخ». ويبدو انه كان يقصدنا نحن معشر العرب، خصوصاً في هذه الأيام الحالكة سواء التي تسود فيها نزعات انتحارية قاتلة تجر الأمة بكاملها الى نحرها وتقضي على الماضي والحاضر ومستقبل الأجيال بسبب عدم الاتعاظ بدروس الماضي واللجوء الى العنف والإرهاب، أو الى العناد والمكابرة والإصرار على التمسك بمواقف متحجرة ورفض التنازل عنها قيد أنملة رغم العلم المسبق بأنها تدمر البلاد وتهلك العباد. وهو ما تشهده على امتداد ساحتنا العربية، وبالذات في لبنان وفلسطين. أما العراق فحدث عنه ولا حرج ما يستدعي تخصيص مقال خاص عن شؤونه وشجونه وعن النهج الانتحاري والتقسيمي المدمر والعقليات الجهنمية الآمرة بالقتل والتفجير والتكفير وإثارة الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية.
وحتى لو افترضنا جدلاً ان هناك 100 مليون أمي عربي لا يقرأون، وان مثلهم لا يملكون القدرة على ممارسة «ترف» القراءة، بينما الثلث الثالث ليست لديه الرغبة بإضاعة وقته في مثل هذه «التفاهات» (!!) فإن هناك بديهيات وثوابت وأدبيات لا تخفى على أحد، لا سيما اصحاب القرار ودعاة الفتن وكل من تصدى لحمل المسؤولية في السلطة أو كان طامحاً الى توليها في المعارضات المنتشرة في ديارنا العامرة.
والبداية في القرآن الكريم، وواجب كل مؤمن ان يحفظه ويعمل بتعاليمه السامية، ففيه يدعونا الله عز وجل الى التضامن والاعتصام بحبل الله، وحل الخلافات والامتناع عن الافتراق، كما يحرم علينا قتل النفس البريئة ويدعونا الى المجادلة بالتي هي أحسن وبالموعظة الحسنة والى الالتقاء على «كلمة سواء بيننا»، ويحذرنا من ان نتنازع فنفشل وتذهب ريحنا، وهذا غيض من فيض التوجيه الإلهي ورحمة المولى عز وجل، ولكن لا حياة لمن تنادي رغم التسابق على الادعاء بالتقوى والصلاح والإيمان والتمسك بتعاليم الدين الحنيف وتكفير الآخر.
كل ما نشهده من أحداث وأقوال وأفعال هذه الايام مناقض للدين والشرائع ومهدد لمصير الأمة والأوطان ومصالحها، ومنتهك لأبسط قواعد الديموقراطية وحقوق الإنسان ويودي بنا الى الهلاك والحروب الأهلية والفتن الطائفية والمذهبية والتفتيت والتقسيم عن علم أو عن تواطؤ وعن عناد ومكابرة. وكل ذلك يحصل بأيدينا وبإرادتنا وبأفعالنا، فيما يوجه الافرقاء أصابع الاتهام الى الآخرين بدءاً من العدو الصهيوني وصولاً الى الإدارة الأميركية والصهيونية العالمية التي لا تخفي عداءها وتآمرها.
إننا نسمع عن «الجدل البيزنطي» والخلاف على جنس الملائكة هل هو مذكر أم مؤنث، فنبتسم ونعتقد ان الأمر مجرد ضحك، فإذا بنا نتلهى بمثله ونشعل نيران الفتن ونعد العدة لحرب أهلية حول أمور تافهة أو جدل عقيم يدور في النهاية حول السلطة وغنائمها وشهوة الوصول اليها، فيما العدو يهددنا في عقر دارنا.
وكنا نقرأ عن جدل آخر حول من جاء أولاً «البيضة أم الدجاجة» فنبرم شفاهنا ونمضي، فإذا بنا نشهد اليوم جدلاً مماثلاً في لبنان حول من يأتي أولاً رئيس الجمهورية أم حكومة الوحدة الوطنية، فتتعطل البلاد ويهاجر العباد ويسود الخراب وتصبح الحرب قاب قوسين أو أدنى ويسقط الشهيد تلو الشهيد ويستمر العبث بالمصائر ويشتد العناد ضراوة.
وكنا نقرأ عن القط الذي لحس المبرد فتلذذ بالدم المنبعث منه وما ان بلغ مدة نشوته حتى تبين انه استنزف دمه وانتحر بإرادته، أو بالأحرى بغبائه، وهذا ما نشهده هذه الأيام في ديارنا وما نعانيه من قطط مصاصة للدماء لا ترتوي ولا تدرك انها تنتحر وتنحر وطنها وأهلها.
إننا نقرأ عبارة «أنا ومن بعدي الطوفان» فلا نصدق ان هناك بين البشر من بلغت به الأنانية والإجرام هذه الدرجة من السفالة حتى يقبل فناء العالم كله ويبقى هو وفق اسلوب «أنا أو لا أحد» الذي تبناه البعض نقلاً عن أحد المسلسلات المكسيكية.
وكنا نقرأ رواية «شمشون ودليلة» ونحفظ منها عبارة «علي وعلى أعدائي يا رب» فنبرر له حبه لها وحقده على أعدائه، فإذا بنا اليوم نصل الى الدرك الأسفل في تطبيق هذه المقولة وتحويرها لتصبح «علي وعلى أهلي ووطني وأمتي» لا يهم، المهم أن انتقم وأنفذ كلمتي وأفرض رأيي على الآخرين وإلا فالموت الزؤام والدمار الشامل لي ولكل الناس!
وكنا نستمع الى رواية «كاسر مزراب العين» للأخوين رحباني التي تتحدث عن عبده الذي أحب فتاة من الضيعة لكنها رفضته وأحبت شاباً آخر فذهب الى مزراب العين (النبع) وكسره ليحرم أهل القرية من الماء وينتقم منهم جميعاً ثم ليدفع الثمن معهم بالموت عطشاً.
إننا نقرأ عن أمراء الطوائف في الأندلس، ثم خلال الحروب الصليبية، ولا نصدق ان هناك من يبيع إخوته وأهله للأجنبي أو ان يخون الأمانة ويتآمر على الأعداء الذين استغلوا الفرصة للقضاء على الطرفين معاً، فإذا بنا اليوم نشهد حالات مماثلة أو على الاقل حالات الانقلاب على الوطن والتنكيل به، فيما العدو يحتل أرضنا وينكل بالجميع من دون تفريق، وينفذ أغراضه ومخططاته التوسعية ومؤامراته المبيتة.
نقرأ ونسمع ونرى، ولكننا لا نتعظ ولا نتعلم من دروس التاريخ وتجارب الآباء والاجداد، بل حتى من تجاربنا القريبة والمعاصرة وهي كثيرة ومريرة. فقد ضاعت القيم وساد عمى البصر والبصيرة وصار العناد سياسة عامة والمكابرة منهجاً دائماً، والتفرد غاية والعداء وسيلة حقيرة للوصول اليها.
واعتقد جازماً ان هذه الأطراف لو عادت الى ضمائرها لاكتشفت الحقيقة المرة وأدركت انها تسير نحو الهاوية وتجر معها البلاد والعباد الى الفناء، فهي قد تربح معركة ولكنها في النهاية لن تربح الحرب مع الأشقاء، فماذا ينفعها الأمر لو ربحت العالم كله وخسرت نفسها ومعها الأشقاء والشركاء في الوطن والأمة.
هذه النظرة الوجدانية قد يفسرها البعض بأنها مثالية، ولكن من يتعمق بها يجدها واقعية بامتياز، خصوصاً اننا نقف على قاب قوسين أو أدنى من شلالات دم ونزيف حاد في شريان الأمة تقودها اليه نزعات انتحارية عشوائية ومدمرة وينفخ في نارها ألف يوضاس وبروتوس.
الوضع في لبنان صعب جداً، والعين تنزف دماً لا دمعاً على الشهداء الأبرياء الذين يتساقطون كل يوم منذ بدء الأزمة السياسية الراهنة وسط جدل هزلي تنطبق عليه صفة «المضحك المبكي» بعد اعتصامات واغتيالات وإضرابات وأحداث وتفجيرات عطلت العجلة الاقتصادية وهربت الاستثمارات الخارجية في عصر الفورة العربية وهجرت خيرة الشباب من أصحاب الخبرة والعلم واليد العاملة الماهرة في استنزاف يومي وجراح لا تندمل وسط أجواء الرعب والخوف والقلق والتهديد اليومي لحياة الناس ومصادر رزقهم والتلويح المرعب بالويل والثبور وعظائم الأمور والفتن والحروب الأهلية والمذهبية والطائفية.
وهناك اليوم فرصة أخيرة عبر المبادرة العربية إن لم يستغلها القادة اللبنانيون فإن الآتي أعظم وأخطر والمصير مهدد بالزوال والموت المحتم لهذا الوطن الجميل. فهل يستمع أصحاب الشأن لنداء الإنقاذ الأخير، ولدموع الثكالى والأيتام وصرخات الأطفال المعذبين! قليل من العقل ومن التنازلات ومن الحكمة ينزع فتيل الانفجار، وقليل من المرونة والتسامح والمحبة ينقذ لبنان من مصير أسود، ويتم انتخاب العماد ميشال سليمان الذي اعتبر رئيساً توافقياً بسبب ما يتمتع به من مزايا ومن ثم يمكن بعد ذلك حل القضايا الخلافية.
أما في فلسطين فالجرم أكبر والجرح أشد وهناً، فيه شعب يرزح تحت احتلال غاصب ويعيش في مخيمات البؤس والعذاب لا تكفيه معاناته ليبلى بصراع عبثي بين اخوة الدم ورفاق السلاح، فيجد نفسه مسحوقاً بين مطرقة العدو وسندان قياداته ومحاصراً من كل الاتجاهات، حتى حقوقه المشروعة تكاد تضيع تحت ضرورات الحاجة وحق البحث عن لقمة العيش أو عن دواء لمرضاه!
والسؤال الذي يكاد يفقدنا عقولنا هو أي سلطة تتصارعون عليها؟ وأي كرسي هذا الذي سيتحول الى كرسي إعدام للشعب الفلسطيني وقضيته، وأي شرعية تتحدثون عنها وأنتم مجرد سجناء في أكبر سجن في العالم، إن كان في الضفة الغربية أو في قطاع غزة؟ ولا أدري أين ضاعت الوطنية والحكمة؟ وأين اختفى العقل والعلم؟ وأين تلاشى الإيمان وما يحمله من قيم ومحبة وتسامح ودعوات للتراحم والتآلف وحماية الدين والأرض والعرض؟
لقد تنفس العرب الصعداء عندما تم التوصل الى «صلح مكة» بين حركتي «حماس» و «فتح» برعاية خادم الحرمين الشريفين، ثم جاءت الضربة القاصمة التي خيبت الآمال عندما وقعت أحداث غزة وسيطرت «حماس» على مقاليد الأمور الزائلة وتم طرد أنصار «فتح» بعد ممارسات مخجلة، فيما العدو يحاصر ويقتل ويدمر ويتمادى في غيه الى ان حصل ما حصل وانفجر الغزاويون غضباً من معاناتهم وحرمانهم من أبسط متطلبات الحياة الانسانية.
واليوم، لا بد من وقفة ضمير وتبصر، وقفة شجاعة وعز، للمسارعة الى اصلاح الأخطاء ورأب الصدع ولململة الصفوف قبل فوات الأوان وضياع ما تبقى لنا من آمال وأوراق قوة. وهذا ينطبق على لبنان وفلسطين والعراق... فلنقرأ الواقع جيداً وندرك مخاطره ونأخذ منه الدروس والعبر، فالرجوع عن الأخطاء فضيلة، وحقن الدماء واجب على الجميع: أصحاب الحل والربط ثم الحكماء العرب المطالبون بالتحرك بسرعة لتفعيل المنطقة بأسرها.
وأختم مع أمير الشعراء أحمد شوقي الذي كأنه يخاطبنا اليوم عندما يتساءل معنا:
علام الخلاف بينكموا علاما
وهذه الضجة الكبرى علاما
وفيم يكيد بعضكموا بعضاً
وتبدون العداوة والخصاما!!
*كاتب عربي