"الربيع العربي"ليس بالإمكان أبدع مما كان"!!
د. زيد نوايسة
12-12-2013 05:06 PM
أمهر العرافين وأحذقهم، لم يكن يتوقع أن يؤول حال العالم العربي إلى ما آل إليه الآن، بعيد "الحدث التونسي" العتيد، وسقوط نظام بن علي وهروبه الغامض مساء ليلة 14/1/2011، والذي ما زال يحمل أسئلة غامضة وتساؤلات أكثر غموضاً، وربما نحتاج لسنوات عديدة حتى تتبين الخيط الأبيض من الأسود فيه، لكن المؤكد أن الوثائق والتقارير الاستخبارية ، والتي ستصبح متاحة للعامة يوما ما ستحمل لنا الإجابة الوافية، أو الأكثر قربا من الحقيقة اضعف الإيمان!!، فتلك الليلة هي المبتداء والخبر في كل الرواية.
بالرغم أن الإعلام الرسمي العربي سارع ومنذ اللحظة الأولى للتقليل من خطورة "الحالة التونسية" وان الإيقاع التونسي له خصوصية مختلفة ومتفردة، ومن غير الموضوعي إسقاطها على بقية الأقطار العربية، لكن الرياح "عاكست المشتهى من غاليات الأماني"، فامتد الربيع التونسي ليشمل العالم العربي من الماء للماء، دونما استثناء، ولكنه تحول إلى خريف وخراب في أكثر من بلد عربي لاحقاً.
تعامل النظام الرسمي العربي مع الواقع الجديد بتباين واضح من قطر لأخر،ولكن الجميع انطلق بوحي من طبيعة نظامه السياسي وتركيبته الاجتماعية التي يتشكل منها، سواء كانت حزباوية أو قبلية أو طائفية ، أو أي مكون فئوي أخر، فمنهم من أراد التصدي بحزم ودونما هوادة أو تسامح، ومنهم من أراد أن يستوعب الحدث إلى أن يقضي الله امرأ مفعولا، مراهنا على تبدلات إقليمية أو دولية هناك أو تراجعا هنا.
وسائل الأعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وانتشارها بشكل هائل، ساهم في حشد الناس على اختلاف مستوياتهم، وثقافاتهم، ومنطقاتهم، ودوافعهم إلى السعي نحو التغيير، والى الرهان على أننا على أعتاب عالم عربي جديد، تتشكل ملامحه لأول مرة بعد انقضاء مرحلة الاستعمار الخارجي، وقرب "أفول" منطق الدولة الأبوية المسيطر، وأننا على وشك الولوج إلى زمن أخر من الديمقراطية، وحرية الاختيار، وصناعة المستقبل.
في ظل هذه الأجواء المشحونة سادت الإشاعة والإتهامية، ونظرية المؤامرة وأنصاف الحقائق، ونطق الأبكم بأثر رجعي، وسيطرة القبيلة والطائفة والهوية، واعتمدت مرجعية بديلة للوطن، فانتشر كل ما هو سيء ومثير ومحرض ومعادي للعقل وبعيد عن الحكمة!!، فكل ما قبل الحدث التونسي في وجهة النظر السائدة والمسيطرة، كان خرابا، ودمارا، وضياعا، وانعدام للحرية والكرامة؟!!، فلا تنمية ولا تعليم ولا صحة ولا فرص عمل، وكأن الناس كانت هائمة على وجوهها دون أن تتحسس أو تعيش أي مقوم من مقومات الحياة؟!!.
في تلك البيئة وصوتها المرتفع لأن الرغبات أعلى من الواقع، بدأت قيادة ما سمي "بالربيع العربي" تختطف من الجماهير إلى الإعلام الفضائي والالكتروني ومنظريه والقوى التي توجهه وتموله وتديره لحسابها أو لحساب غيرها، في صورة نزعت عن بعض ذلك الإعلام، أي ادعاء بالمهنية والموضوعية، وتحول إلى مشارك ميداني، وطرف رئيسي في الحدث، وموجه أساسيي للتحركات والمعارك، وربما صانعا لها في أحيان كثيرة.
المشهد العربي ازداد كآبة وسوداوية، ودماءً يوماً بعد يوم، وظهر أن كلفة السير نحو ما يريده منظروه ذلك الربيع اكبر بما لا يمكن قياسه، من كلفة البقاء على ذات الحال قبل الانفجار المريع!!، فما زرع بين الناس بمختلف مكوناتهم ومرجعياتهم في أكثر من قطر عربي من العداء والكراهية والحقد ، لا يمكن نزعه ألا بعد أن تغادر أجيال بأكملها المشهد.
لكن بارقة أمل تلوح في الأفق مفادها بان الناس، وهم أدوات التغيير ومنطلقه ومبتغاة، تتعزز لديهم القناعة كل لحظة، بان انعدام الخيارات الديمقراطية أو تباطؤها أفضل ألف مرة من سيادة الفوضى وخسارة الوطن!!.
ولكني استدرك هنا فأقول: الأكيد أن العالم العربي في معظم أقطاره منقطع الوصل مع الديمقراطية بأدنى صيغها، وهناك حالة استعصاء مزمنة في قناعة العديد من صناع القرار بأن الإنسان العربي غير مهيئا بعد للديمقراطية، مما خلق حالة الإحباط واليأس الذي دفع في النهاية إلى المشهد الحالي واستثماره ممن يضمرون السوء لأقطار هذه الأمة مجتمعة ومنفردة.
ربما من المناسب القول الآن وأكثر من أي وقت مضى، أن على من يتصدر المشهد من قادة الرأي إعلاميا وسياسيا ودينيا في العالم العربي والاهم منهم الممولين للفوضى، أن يخلصوا إلى قناعة مطلقة ومسلمة بديهية، أن التغييرات الثورية بالمنطق الدموي والتفكير الاقصائي، غادرت إلى غير رجعه مع انهيار أخر حجر في جدار برلين، وأن حدثت فأن سبل استمرارها غير مأمونة، ولم يعد أمام الناس من خيار ألا الاحتكام للعقل والمنطق السلمي والتدرج في الإصلاح، رغم أن ثقافة السلطة والاستئثار بها ما زالت معششة في العقل الرسمي العربي ، وما زال البعض يعيش خارج سياق صيرورة التاريخ، ولكننا لا نريد أن يحرق كل شيء وتصبح أوطاننا "فرق عمله" في أسواق السياسة الدولية!!.