رحل حاكم الفايز، الرجل الذي أمضى ثلاثة وعشرين عاما في سجون دمشق، وعاد الى الاردن مطلع العام ثلاثة وتسعين، بعد ان كان قياديا كبيرا في حزب البعث، الذي تعرض رموزه للسجن في مرحلة من التصفيات السياسية التي يشهد عليها كثيرون.
لا انسى ابدا حاكم الفايز؛ لأن أول عمل صحفي نشرته في «الدستور» عام ثلاثة وتسعين، كان مقابلة مع حاكم الفايز،وفي تلك الساعة المبكرة من الصباح، وكان لتوه خارج من معتقله، و وافق على اجراء المقابلة، ولاينسى المرء نظرات التحاسد التي امطرني بها زملاء المهنة؛ لأن البداية كانت قوية بمقابلة مع رجل مهم، خرج للتو من محنة،وذاكرته تفيض بالحكايات، وكان متمنعا عن الكلام في ايامه الاولى، لولا ان حظي معه كان مختلفاً.
في ذاك اللقاء تحدث الفايز عن معتقله وزيارات عائلته له من الاردن، والكلام السياسي لم يغب عن اللقاء يومها، وكان واضحا ان الرجل صلب جدا، روحه قوية، برغم الغياب عن بلده وعائلته طوال عقود، واستمعت يومها الى تفاصيل حياته في السجن، ولماذا تم سجنه، وكيف خرج ايضا، وانطباعاته إذْ يعود بعد عقود الى الاردن؟!.
بقي حتى رحيله عروبيا اردنيا وفلسطينيا، ناصر العراق، ووقف في وجه التطبيع مع الاحتلال، ولم تهزه الاحداث الصعبة، ولم يتراجع الى الظلال في فكره كما في انقلابات مناضلين يتراجعون تحت وطأة المتغيرات، أو تغير الظروف، وبقي الرجل على ذات المبدأ بعيدا عن المتاجرة بإرثه، او تسليع غيابه، سياسياً عن عمان.
شراسته في الدفاع عن افكاره نرى ذات بصمتها في كريمته النائب هند الفايز؛ التي تترك انموذجا لامعا للنائب ودوره في العموم، قبل ان تترك الانموذج من باب كونها سيدة، وهي لاتبحث عن الشعبوية، وفي ذات الوقت تتعب على ملفاتها ولاتفرط بدورها، لا في وجه وزراء، ولا جراء ضغوطات، وليس ادل على ذلك معارضتها المدروسة لاقامة المفاعل النووي في الاردن لاعتبارات كثيرة.
انموذج حاكم الفايز من جهة أخرى يحدثك عن الفروقات بين الدول والانظمة، في المطلق، فالخلاف مع قيادة الحزب في دمشق في السبعينيات، يرسل الرجل الى السجن لعقود، في ظل نظام شمولي حزبي، والنظام كان يأكل المناصرين والمؤيدين والمخالفين.
في دول اخرى مثل الاردن، يتبوأ المعارضون ومن دبروا محاولات القتل والاغتيال، مواقع رسمية، وهذه الروح نريدها اليوم ان لاتتراجع هنا، وان يبقى الحلم والاحتمال والصبر، واستيعاب الجميع، ميزة لنا، وهي ميزة طالما كانت عنوانا للبلد، لم تتراجع ايضا تحت وطأة العداوات والخصومات والوشايات والثرثرة المنقولة والدسائس.
منطق التسامح مع المعارضين السياسيين او اولئك من يصح تسميتهم بأصحاب الرأي الاخر، يجب ان لايغيب، وان يبقى قائما، في بلد قوامه السياسي اللاثأر، وغياب عقيدة الانتقام من الناس، بأثر رجعي، اهم مافينا، وهي عقيدة تتطابق ايضا مع الموروث الاجتماعي الذي يصل في نبله حد التسامح بشأن الدم، فما بالنا بالقضايا الاقل اهمية؟!.
الجيد والسيئ، على حد سواء، محسوبون على بلد واحد هذا مع تحفظنا على معيار تحديد من هو الجيد ومن هو السيئ اساسا، وهذه تعريفات لاتثبت باتجاه واحد؟!.
حاكم الفايز ومثله شخصيات اردنية كثيرة برزت في زمن المد القومي، وقالت في لحظة ما: إن تطلعات الاردنيين نحو عروبتهم، كانت مفتوحة الافاق، في تكوين سياسي واجتماعي اتسم اساسا بعدم انعزاليته، عن الآخرين، وهذا مانراه حتى اليوم، في التجاوبات الوجدانية مع شعوب الجوار وبلاءاتها، على الرغم من ضيق حال الأردن، ومن فيه اساسا.
يبقى رحيل حاكم الفايز مثيرا للسؤال حول سر عدم رواية الموالين والمعارضين، القريبين والبعيدين، لمروياتهم وذكرياتهم، من اجل ذاكرتنا الجمعية، وحتى لايبقى بعضنا يظن ان هذا البلد بلا ذاكرة، وهو ظن، كله وبعضه، اثم على اثم!.
mtair@addustour.com.jo
الدستور