ما نقلته صحيفة " معاريف" عن تأييد عمّان لبقاء جيش الاحتلال في غور الأردن حتى في ظل تسوية دائمة، يصيب المرء بالصدمة؛ ذلك أننا لسنا، هنا، بصدد التفريط بمصالح فلسطينية أو قومية لحساب المحلية، وإنما بصدد التفريط بالمصالح الاستراتيجية للدولة الأردنية، وأمنها الوطني.
يمكننا أن نتحفّظ، بالطبع، على خبر " معاريف" ذاك؛ فالصحافة الإسرائيلية لا تتوقف عن نشر أخبار عن مواقف أردنية مؤيدة لوجهات نظر تل أبيب أو حول مشاريع ثنائية معها، ثم يظهر، لاحقا، أنها أخبار غير صحيحة، إنما ليست، بالتأكيد، عارية من الصحة؛ فالأرجح هو أن التيار المتأسرل في النظام الأردني، يدخل في حوارات وينسق أفكارا ومشاريع مع الجانب الإسرائيلي، تتحول أخبارا، بعضها يسلك، وبعضها يتعرقل جراء النقاش الأردني الداخلي أو التحفظات الأمنية الخ. غير أن الصدمة تظل قائمة إزاء موافقة أي أردني على استمرار إسرائيل في احتلال أي أرض فلسطينية، فما بالك بالشريط الغوري المحاذي للأردن، على مساحة ثمانمائة ألف دونم، ومسافة 97 كلم؟
ويغدو حجم الصدمة، هائلا ومريرا ومخجلا، حين نعلم أن مسؤولين أردنيين أجابوا طلبا إسرائيليا، بالتوسّط لدى واشنطن وإقناعها بأفضلية الإبقاء على وجود القوات الإسرائيلية في الجانب الفلسطيني من غور الأردن. وربما كان ذلك، وحده، كافيا، لإدانة أصدقاء إسرائيل في عمّان، ولكن هناك، في التفاصيل، ما يجعلنا نطرح السؤال حول المدى الذي وصلت إليه تيارات حاكمة في الأردن، في التفريط بالمصالح الأردنية لمصلحة إسرائيل.
للأردن مصلحة وطنية استراتيجية في قيام دولة فلسطينية مستقلة سيدة ـ وهو ما يكرره الخطاب الرسمي الأردني علنا، بينما يجري العمل ، في الواقع، لعرقلته ـ ولعل أهمّ ما يعني المصلحة الأردنية المحلية المباشرة من شؤون السيادة الفلسطينية هو، تحديدا، ألا يكون بين الأردن ودولة فلسطين المستقبلية، حاجزٌ إسرائيلي، بل حدود ثنائية تخضع لسيادة الطرفين العربيين دون سواهما، بما يحقق للأردنيين، استراتيجيا، المكاسب التالية:
أولا، تخفيض الكلفة العسكرية اللازمة للحفاظ على جهوزية الدفاع على خط حدودي بطول 97 كلم.
ثانيا، حل مشكلة نازحي ال67 ومواطني الضفة المقيمين في الأردن وقسم من اللاجئين، في إطار سيادي ثنائي، أردني ـ فلسطيني، بما يسمح بحرية حركة العودة الفعلية أو السياسية. والأخيرة تعني منح النازحين واللاجئين، الجنسية الفلسطينية والمشاركة السياسية في فلسطين، مع بقائهم مقيمين في الأردن. وتتطلب هذه الصيغة، الكفيلة بتجاوز عقدة كأداء في ترتيب الديموغرافيا السياسية، حدودا ثنائية مفتوحة بين الدولتين، تسمح بالعودة الاختيارية الحرة إلى أراضي الدولة الفلسطينية، كما تضمن حرية التنقل السكاني بين مناطق التمثيل السياسي في الضفة الغربية، ومناطق العمل والإقامة في الضفة الشرقية. ولا يشكل هذا الحل الواقعي، بطبيعة الحال، المأمول من تطبيق حق العودة للاجئين ، ولكنه يكفل حق العودة للنازحين، وحق الاختيار، بالنسبة لللاجئين، بين الجنسية الأردنية والجنسية الفلسطينية، وتأمين شروط علاقة اللاجئ السياسية بدولة فلسطين من دون الإضرار بمصالحه الخاصة، المهنية أو التجارية الخ، خارجها.
ثالثا، تأمين حرية قيام مشاريع تنموية ثنائية، أردنية ـ فلسطينية، مشتركة، من شأنها تطوير البنى التحتية المائية والزراعة الغورية والسياحة الشتوية ، بما يعود بمكتسبات كبرى على الجارين الشقيقين؛ فغور الأردن ، الذي يُعدّ المنطقة الأكثر انخفاضا عن سطح البحر في العالم، يشكّل حوضا زراعيا شديد الخصوبة ، بما في ذلك للعديد من الزراعات الصناعية ، بالإضافة إلى كونه منتجعا شتويا نادرا ، وخصوصا في منطقة البحر الميت.
إن فرص تطوير غور الأردن على ضفتي النهر ـ وهي ضرورية للطرفين، وذات حجم كبير من الناحية الاستثمارية ـ معطلة بسبب الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967. وهي لن تكون ممكنة إلا إذا قامت دولة فلسطينية مستقلة يكون الجانب الفلسطيني من غور الأردن تحت سيادتها الكاملة.
رابعا، تأمين حرية التبادل التجاري وإنشاء المشاريع المشتركة والتهاون الاقتصادي بين الأردن وفلسطين، بما يكفل ليس فقط الدفع نحو استقلال الاقتصاد الفلسطيني عن نظيره الإسرائيلي، ولكن، أيضا، فتح الآفاق العربية أمامه، بما يخدم الاقتصاد الأردني، ويفتح أمامه فرصا جديدة.
خامسا، ويسمح تحقيق النقاط السابقة لعمّان، بإدارة مرنة للكتلة النقدية بالدينار الأردني في الضفة الغربية، من خلال ربط الاقتصاد الفلسطيني والجنيه الفلسطيني الموعود بالدينار لا بالشيكل الإسرائيلي.
ومن قبل ومن بعد، تبقى صدمة توجع القلب وتنكّس الرأس!