من حق بدر عبدالحق علينا ان نكتب عنه، لا لرثائه أو الاسهاب في تعداد خصاله وسمو اخلاقه ونبله، وقدرته على امتصاص الغضب الشخصي والمسارعة للاعتذار عن شيء ما، او قصة أو نميمة، الصقها احد الخبثاء به كي يتنصل من مسؤوليته عنها، فلا يجد سوى بدر مشجباً يعلقها عليه، ولأن شخصاً مثله لا يتوقف كثيراً عند توافه الامور ولا تتملكه الرغبة بالانتقام أو التدقيق في مصدر الحكاية التي اوقعته في فخ الخصومة المفتعلة، فإنه غالباً بل دائماً، ما يستوعب الموضوع ويعلن بضحكته الفريدة، غير القابلة للتفسير او الفهم احيانا، استعداده لتحمل المسؤولية داقّاً على صدره، واضعاً حداً لمشروع خصومة، ظن صاحبها او مُفْتَعِلها انها ستدوم، ولم يكن سوى بدر عبدالحق من هو مؤهل لفعل ذلك..اكثر الذين سيروون حكايات بدر الدين عبدالحق ومقالبه، ويتحدثون عن مهنيته وثقافته وتواضعه، هم الذين زاملوه في دائرة العربي والدولي في الرأي، وهم المؤهلون للحديث عن بدر الصحافي وكاتب زاوية 7 ايام الشهيرة، وبما كان يتوفر عليه من قدرة عن تكثيف جملته وتلغيم فقرته والزج بأمثلة وبلدان وشخصيات بعيدة جغرافياً وربما تاريخياً، لتمرير الفكرة التي يريد ايصالها لجمهور القراء، وايضا للتحايل على صاحب القلم الاخضر الاستاذ محمود الكايد اطال الله في عمره..
لم يكن غريباً، والحال هذه وبما بدا بدر عبدالحق، ان يشكله من ظاهرة لافتة في زاويته الاسبوعية، وما تحفل به من غمزات واشارات واحياناً استفزازات، ان يُطلب اليه التخفيف من لهجته والتزام الوضوح في مقاربته، وصولاً الى وقفه عن العمل واعاقة عودته لاحقاً الى موقعه، لأسباب يعرفها الجميع، وكانت عنواناً لحقبة ما قبل تسعينات القرن الماضي..
طمح بدر عبدالحق قبل ان يستبد به المرض، وفيما تجمعنا عضوية الهيئة الادارية لرابطة الكتّاب في اوائل التسعينات مباشرة، بعد ان استضفنا مؤتمر اتحاد الكتّاب والادباء العرب لأول مرة في عمان، وبعد ان نجحنا في ابقاء رئاسة الاتحاد ومقره في عمان، ان يتفرغ لكتابة زاوية يومية، وان يتحرر من ربقة دوام مطبخ العربي والدولي، الذي لا يتيح له ترف متابعة الندوات والمهرجانات والامسيات الشعرية والثقافية والفنية، التي نشطت في عمان ما بعد العام 1991، حتى غدت العاصمة خلية نحل سياسية وثقافية ونقابية وحزبية، وبدا وكأن الجميع قد خرج من قمقم الى فضاءات رحبة تكاد لا تتسع لكل هذه الحيوية والدفق والتوق.
اشفقت على بدر من الوهم الذي لازمه، ونصحته بأن لا يقدم على خطوة كهذه، لأنه سيصاب بالصدمة عندما يكتشف حجم الزيف والتكاذب الذي يطبع اجواء المثقفين، ولن يحصد غير الخيبة والمرارة، بعد ان يتورط في لعبة التحالفات والاصطفافات والاحقاد والتصنع والانانية، التي تفرزها الصراعات الحزبية والشللية في رابطة الكتّاب، كما في النقابات المهنية وبخاصة بعد ان غدا العمل الحزبي علنياً، مشروعاً ومتاحاً وبعد ان لم يعد للمطبوعات السرية، والاجتماعات الحزبية حميمتها وطابعها الخاص والمتفرد.
ما ان نجحت القائمة التي ترأسها المرحوم مؤنس الرزاز في حصد اغلبية المقاعد حتى كان بدر عبدالحق قد تفرغ للمهمة التي انتدب نفسه لها ظناً منه انه قد تحرر من ربقة الدوام الليلي الملزم في مطبخ الرأي وان الفرصة قد واتته للتعويض على سنوات عديدة حُرم خلالها من التعرف على المشهد الثقافي والأدبي وخصوصاً السياسي الذي انفردت رابطة الكتاب منذ تأسيسها في العام 1974 حتى ذلك الوقت 1991، في قيادته واثرائه وكانت بالفعل (الرابطة) العنوان والمقر والمبادرة ونقطة الانطلاق لكل عمل سياسي وثقافي وادبي ونقابي، بطابعه الوطني والتقدمي والقادر على التشخيص والقراءة الدقيقة للمرحلة الراهنة (وقتذاك)..
لبثنا في الهيئة الادارية عاماً او يزيد ثم بدأت المزايدات تأخذ طريقها الينا (في الهيئة الادارية) حتى ضاق صدر خمسة من الاعضاء على رأسهم المرحوم مؤنس وكاتب هذه السطور وثلاثة من الاعضاء، واصروا على تقديم استقالة جماعية والدعوة الى انتخابات جديدة ورغم الضغوط من عديد من الاحزاب والشخصيات، إلاّ ان القرار كان قد اتُخذ، ولم يكن سوى بدر عبدالحق القادر على تمكيننا من الاغلبية (6-5)، ذهبت ومؤنس الى منزله كي نحضره فقط للتصويت والتوقيع (وكان الزهايمر قد بدأ يترك اثره على ذاكرة وشخصية بدر)، وكان لنا ما أردنا، ولكن وفق شرط طلبته بأدب وحزن شديدين السيدة الفاضلة زوجته بأن نعيده الى البيت..
كتبت المحضر بصفتي اميناً للسر ووقعنا (الأعضاء الستة) عليه ولم نُعِدْ بدر الى بيته في ابو نصير.. إلاّ بعد ان ذهبت واياه ومؤنس الى مقهى العاصمة الذي طالما حَسَدَنا بدر على جلسته.. وكانت الجلسة الاخيرة فيما احسب لأن البدر اختفى عن السمع والبصر، ولم يسعفه هذا المرض اللعين في التمتع بتفرغه او الذهاب الى ما ظن انه محروم منه، من ندوات ومقاهٍ وأمسيات تكرس في اغلبها للثرثرة او تزجية الوقت او النميمة..
رحل بدرالدين وارتاح بعد معاناة طويلة مع مرض أرهقه وارهق عائلته الصغيرة واحزن كل من عرفه.
فليرحمه الله..
kharroub@jpf.com.jo