رأينا في المقالة السابقة- أن التقدم والنهوض.. يستدعيان عدم التستر على السلبيات في تراثنا- وأن ذلك يستدعي اعتماد منهج- الشكّ والنقد والتحليل والتدليل والتعليل- وأن القرآن المجيد ،في الآية الثانية من سورة (البقرة)- يقرر أن كل كتاب في الدنيا – ما عداهُ- فيه ريٌب- وإذن- البخاري ومسلم – صحيحا هما فيهما ريب-وفي كتب الحديث الأخرى ريب أكثر- يتضخم في كتب الطبقة الرابعة.. كتب القصاص- وأن البخاريّ ومسلماً- في صحيحيهما- كثير من العيوب التي تعاب بها الأحاديث- وتضعَّفها 0 وأن منهج القدامى – في رواية الحديث غير متقن- إنْ- في السند، وإنْ- في المتن ... ورأينا أن كثيراً من الرواة لم يقع الاتفاق على تعديلهم أو تجريحهم، بل يتوه المرء في الوصول إلى- الحكم على أيًّ منهم – لكثرة المعدلين للراوي الواحد، وكثرة المجرحين ... وقد وضحنا أن منهج القدامى عليه سَت عْشرةَ ملاحظة تدل على خلل فيه ، وضحناها في المقالة الأولى .
- وفي هذه المقالة.. سنعرض إلى بعض الملاحظات على ما أبداه الأستاذان الكريمان من آراء- علماً أنهما- بدْءاً – قد أحسنا ، كثيراً، ودلّل كلاهما على اطلاعهما الواسع على الحديث وروايته.وهذه هي الملاحظات :
1- قال أحدهما: قال البخاري – عن كتابه في الرواة (التاريخ الكبير ) – بأن كل راوٍ من هؤلاء الرواة- له قصة عندي!
وأقول : أين كَتَبَ البخاري الصدوق ذلك من كتبه؟- البخاري لم يكتب ذلك في كتاب من كتبه. ولو قال ذلك، وكان عنده قصة عن كل راوٍ.. لذكرها، ولأفادتنا، كثيراً، في تمكننا من الحكم على الرواة. إنما هذا القول رواية منسوبة إليه، وهي رواية- موضوعة عليه عندي، لأنه لو كان عنده قصة عن كل راوٍ – لذكرها مع ترجمته، أو لأشار إلى مجمل ذلك، في- مقدّمة- يضعها لكتابه- الجامع الصحيح –الذي لم يضع له مقدمة- للأسف ، فهذا.. لون من القبول للأخبار الموضوعة- الراجع لغفلتنا، وبعدنا عن – منهج الشكّ والنقد...
2- ويقول أحد الأستاذين: البخاري.. عبقريّ، لا يدوّن في كتابه إلا الصحيح.
وأقول: البخاري- رضي الله عنه- ذو حافظة قوية، وذو ورع وتقوى وتحوّط، وذو اجتهاد في تنقيه الحديث من الشوائب .تعبَ في ذلك، وشقيَ، وجاب الفيافَي والصحارى- راكباً وراجلاً.. ولم يدوّن حديثاً إلا إذا صَحّ عنده...
.. بَيْدَ- أن البخاريّ على صفاته العظيمة التي ذكرنا بعضها ليس معصوماً ولا يعلم الغيب، ولم يكن صحابياً يسمع من بين شفتيْ المعصوم- الشريفتين- وإنما كانت روايته عن أربعة رواة، وعن خمسة وعن ستة.. سبقوه- ماتوا – أولهم مات – قبل مئتي سنة- ولم يبق إلا واحد هو الذي سمع منه. وقبل آراء الناس الذين الْتقى .
بهم في تعديل هؤلاء الرواة، ولم يلتقِ بكثير ممن جرحوهم- لصعوبة الحصول على كامل أحكام التعديل والتجريح على كل راوٍ- في ذلك الحين (الذي يختلف، كثيراً كثيراً، عن عصرنا: عصر تدفق العلم والمعلومات بوسائل حديثةٍ رهيبة الحفظِ والتخزين).. ولذلك- البخاري- حَكَمَ على نحْو ما سمع.
ولكن بعض الرواة كان مُجَرّحاً، ولم يصلْهُ التجريح- أو جرح بعده – كما عرفنا في المقالة الأولى-
ومن صفات بعض الأسانيد التي اعتمدها، أن فيها خللاً- كما عرفنا من المثال الذي أوردناه، وهو إبراهيم ابن طهمان- بعضهم عدّلهُ، وبعضهم جرّحه- كما ورد في كتاب( البدعة) لعائض القرني.
وإن البخاري الصادق في تسمية كتابه ( الجامع الصحيح)- صدقاً داخلياً نفسياً لا شك فيه- ولكن كتابه.. ليس كلُّه صحيحاً- إذا عرضناهُ على أهم ( معايير الصحة والخطأ ) ، إذْ فيه ما لا يقل عن عشَرةً بالمئة من الأحاديث الموضوعة .
- وعلى رأس هذه المعايير : القرآن الكريم- ثم ما صحّ من الحديث النبويّ الشريف- ثم الواقع التاريخيّ والمعيش- ثم التجربة- ثم قوانين علم الاجتماع – وعلم النفس- ثم العدلّ والاعتدال ،والأخلاق،وما ترتاح له النفس، ولا تتقزز منه –ثم ..ما يبدو من خلل في –بْنَية – الحديث، أو- بنية- الحدث...ثم العقل العملي ( وليس التنظيري) المنغمس بكل المعايير السابقة.( وقد سبق أن ذكرنا أن صبحي الصالح- في المقالة الأولى- وجد أن القدامى شكّوا في مئة وعشَرَة أحاديث عند البخاري- صحح منها الإمام مسلم- اثنين وثلاثين- وأن عائضاً وجد في الصحيح- كما في كتاب ( تدريب الراوي) تسعة وسبعين راوياً-.. عُدّلوا، وجُرحّوا). وأن الخطيب البغدادي وجد في كتابه (موضح أوهام الجمع والتفريق )ثلاثة وثمانين راوياً وَهِمَ البخاري فيهم ،فترجم لهم ترجمة خاطئة . والراوي المخطوءة ترجمته كالراوي المجهول أو المحذوف ، لا تعتبر روايته .والأمام مسلم ..مثل الإمام البخاري.
3- ويقول أحد الأستاذين الفاضلين: بأن المعاصرين- إذا أرادوا أن ينظروا في الحديث- هجموا على نقد المتن وحكّموا عقولهم –مع أن القدامى- إذا شكّوا في الحديث- رجعوا إلى السند-
- وأقول: القدامى.. يرجعون إلى السند، لأن الرجوع إلى السند- أسهلُ- من الرجوع إلى المتن، لأن السند وُضع وضعاً مصمتاً بسيطاً، فالراوي- إما أن يَغْلُبَ عليه- التعديل، فيعتبرون المتن صحيحاً، وإمّا أن يغلب عليه التجريح، فيعتبرون المتن- موضوعاً. وهذه.. حِسْبة بسيطة بل ساذجة.
- أمّا الحسبة العميقة الحكيمة.. فهي النظر في – المتن- لأن المتن يظل إلى يوم القيامة يسمح لعقلك أن تناقشة
بناءاً على المعايير السابقة، فتحكم على شيء يدركه- العقل- سواء –أكان الحكم إيجابياً أم كان سلبيّاً .
- ولهذا.. فمنهجي في النظر في الحديث الشريف-هو أنه إذا كان في السند عِلّة قادحة.. فأنا أطرح هذا الخبر من الحديث الشريف، لأن حديث المعصوم –صلى الله عليه وسلم- دِيٌن.. والدين- لا يؤخذ بالشكّ ، وإنما يؤخذ باليقين- كما هو حال القرآن- أو بالظنّ الغالب- كما هو حال أحاديث الأحاد..وليس حديث الأحدان .
-أمّا ما عَدّ النقاد- رواته معدلين.. فإني اتعمق النظر في – المتن- فإذا لم يصّح- بناءَاً على (المعايير)السابقة ..اطّرحه ، وما صحّ أستبقيه ، وأعمل به .وأني أذكر هنا مثلاً واحداً من صحيح الإمام البخاري- يقول البخاري- عن صفات موسى- عليه السلام- في الحديث الذي رواه: - عن بيان ابن عَمْر- عن النضر- أخبرنا ابن عون- عن مجاهد- أنه سمع ابن عباس- رضي الله عنهما قال (...وأمّا موسى.. فجعْدٌ آدمُ...) –وفي حديث آخر، رواه البخاري- حدثه به إبراهيم ابن موسى- أخبرنا هشام ابن يوسف- أخبرنا مَعمر عن الزهري- عن سعيد ابن المسيّب عن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:( ...رأيت موسى..وإذا رجل ضرْبٌ رجلٌ) – أقول: في الحديث الأول= موسى قصيرٌ أسمرُ- وفي الحديث الثاني- موسى- خفيفُ اللحم ممشوقُ الطولِ.. فأيَّ القولين نعتمد؟ وصفتُه في الحديث الأول.. مختلفة عن صفته في الحديث الثاني؟- إقول: إمّا أن الحديثين- موضوعان- وإمّا أن أحدهما- موضوع- وهو الثاني! لأن موسى- عليه السلام- رَبْعةً – كجيل الفراعنة الذين عاش بينهم- فكلهم- ربعة. ولأنه أسمرُ- كأهل مصر، وسائر بلاد المشرق العربي، إذْ تغلب عليهم السمرة. وإذن- الذي أسعفنا في الحكم- المتن- وليس أيٌّ من الإسنادين – إذن.. بماذا أفادنا الرواة- الذين صدّق البخاري قول السابقين بأنهم صادقون-ويؤكد أن هذا الحديث الثاني موضوع .. لا شكّ لأن سند الرواية الثانية- فيه راوٍ يضع الحديث ،وهو: هشام ابن يوسف:(نظ = ابن عدي/ معجم أحاديث ضعفاء الرجال – 12/2029) .
- أما السيرة النبوية العطرة.. فالأمر معها مختلف، لأن ابن إسحاق أول واضع للسيرة، كاملة- وخلفهُ ابن هشام- فلم يوثقا من أخبارها- إلا حواليْ عَشَرَةٍ بالمئة . ولذا.. لا يصح أن نطرح السيرة إلا عشَرةً بالمئة- وإنما نحن ندقق في المتن، فما وافق القرآن المجيد، ووافق المراحل الرئيسية في حياة الرسول المعصوم- وسائر المعايير السابقة- قبلناه . واعتبرناه من السيرة- وما خالف ذلك كله.. نفيناه من السيرة الصحيحة( كما كان منهجي في كتابي المخطوط ( العصمتان) سبق ذكره )
- وليس لنا نصير في هذا إلا العقل المنغمس في المعايير السابقة : يفهم مبادئ القرآن ونصوصه ويفهم المعايير الأخرى- ثم نحكم به.
والعقل والتفكر والتذكر، والنظر وكلها أمور تعود إلى العقل –حث عليها
القرآن أكثر من ألف مرة .أفندع استعمال هذا العقل المنغمس، في جوف هذه المعايير- اعتماداً على أسانيدَ- كثيرُُ منها.. الراوي فيها يُعدّلُهُ ناقدون ويجُرّحُهُ آخرون؟ ثم ..ألسنا نفهم الدين كله- من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات – بعقولنا – أم ترى أنا نفهمه بأقدامنا ؟ ولماذا يُروَى عن الإمام علي – رضي الله عنه أنه قال ..
( القرآن..حَمّالُ أوجُهٍ ) .. - لولا أن القرآن، في كثير من المواطن، لا يقدم لك الحكم، وإنما يستنبط الحكم
العلماء- كما قال تعالى: (وإذا جاءَهم أمرٌ من الأمنِ أو الخوف- أذاعوا بهِ . ولو رَدُّوهُ إلى الرسول، وإلى أوُلي الأمرِ منهم- لعلمه الذين يستنبطونَهُ منهم...) – النساء-83). إذن- كثير من الأحكام يعلمها الذين يستنبطون من القرآن- استنباطاً ، وليس موجوداً عِياناً في القرآن. وبمناسة ذكْرنا للإمام عليّ- فما رُوي عن أنه قال :( لو كان الدينُ- بالعقل- لكان المسح على باطن الخفيّن) هو كلام- مكذوبٌ- عليه ، لأن هذا الإمام العظيم ..أحجى من أن يقول هذا القول الذي لا يتفق والدينَ الحنيف. لأن المسح على الخفين ليس – بالقطع للطهارة أو النظافة الماديّة، وإنما هو للطهارة النفسية، وطاعةً لأمر الله، لكي تجوز الصلاة- التي لا تجوز- إلا بمقدمات- أوْلاها الوضوء بدون مسح- إذا انعدمت الأعذار- وثانيها: المسح مع وجود الأعذار- وثالثها: التيمّم... ومما يؤكد أن المسح على الخفين- سواء- أكان على ظاهر الخف- كما هو المأمور به – أم على باطنه.. ليس من أجل النظافة المادية- أن التيمم يقوم على مسح الوجه، واليدين- بالتراب.. والتراب- وَحْدَهُ- ليس وسيلة للنظافة المادية- بالتأكيد، وإنما هو وسيلة لطهارة النفس، ولصحة الصلاة- حَسَبَ أمرِ الله تعالى.
- لا تستهينوا – أيها المسلمون- بالعقل- المنغمس في معاني القرآن ، وفي المعايير الأخرى- وإذن- الحَكمُ- من تدبر المتن- أصحّ من الحكم من تدبر السند- بعد الذي عرفنا- مع عدم اطراح للسند، عندما يكون تامّاً معدّلاً رجالُهُ.