على مدار يومين، عقد مجلس حقوق الانسان في جنيف والتابع للأمم المتحدة، مؤتمره السنوي، حول حقوق الأقليات، بعنوان : "ما وراء حرية الدين والمعتقد، ضمان حقوق الأقليات الدينية". شارك به ستمائة شخص من رؤساء ومندوبي البعثات الدائمة أو المنظمات الممثلة في الأمم المتحدة، وحضر كذلك ممثلون عن الاقليات الدينية والأثنية، وخبراء متحدثون جاءوا بدعوة رسمية وقد كان كاتب هذه السطور من بين الفئة الأخيرة.
شخصياً كان لي ثلاث مداخلات: الأول ابداء ملاحظات حول المقترحات المقدمة، وركزت على بعدي التربية والإعلام لدى الأقليات، من خلال انصافها في المجالات الدولية والوطنية الحيوية وكذلك من خلال اعطائها الحق في تعليم أطفالها التاريخ الصحيح والوجود والحضور، وقد تقدمت بمقترح جديد لاقى أصداء غير متوقعة، وهو صياغة قاموس جديد من المصطلحات المستخدمة في نطاق الحوار بين الأديان أو بين أتباع الديانات، فهنالك مصطلحات مستخدمة، لكنها لا تؤدي الهدف المنشود، فعلى سبيل المثال قُلت للمنظمين، اننا لا نحب كلمة الأقلية ولا نحب أن نعامل من خلال منظارها. فالأقلية جماعة من الناس قليلة العدد لها نفسيتها الخاصة وعقدها الخاصة والآمها ومشاريعها وآمالها، وهنا تطرقت للمؤتمر التاريخي الذي دعا إليه جلالة الملك في بداية أيلول، فلم يكن عنوانه التحديات التي تواجه "الأقليات المسيحية" بل التحديات التي تواجه المسيحيين العرب.
ومن المصطلحات المستخدمة كذلك هي التسامح. والواقع ان الترجمة العربية سيئة لهذه الكلمة Tolerance وقد كان بإمكاننا أن نستخدمها بسياق آخر وبمصطلح آخر. ان العصر تغير ولم يعد انسان اليوم في القرن الحادي والعشرين متحملاً ومتقبلاً أن يكون مُسامحاً أو أقلية أو متعايشاً معه أو فقط جالساً على طاولة الحوار، ان العصر اليوم يحتم علينا الذهاب من التسامح الى المواطنة وإلغاء خانة الديانة عن الهويات الشخصية، والتعاون بين مختلف البشر المتساويين في مجالات خدمة الانسان، كل انسان.
أما مداخلتي الثانية، فكانت حول المساواة بين الجنسين، وهي أيضاً موضوع شائك، ويبدو في هذا الأمر اننا "كلنا في الهم شرق" بمعنى ان المرأة في مختلف البلدان قد تخطت العديد من الحواجز والموانع، ووصلت الى مناصب عالية ومتقدمة في مجالات القيادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك النضالية في مجالات حقوق الانسان، وكم تم الاصغاء الى نساء ناشطات ومؤثرات في مجالات المساواة. الا ان الأمر غير كافٍ وما زالت المرأة تناضل، ويناضل كثير من الرجال معها لمعاملتها بمساواة كاملة، ووطنياً لدينا الكثير من المراكز، إلا انه لدينا الكثير من التقصير وما زال الطريق طويلاً نحو " العدالة التامة ".
فالإحصائية الأخيرة لقاضي القضاة موجعة، وهي تبين ان نسباً كبيرة من الطلاق تحدث سنوياً، وان هنالك قسماً كبيراً منها لفتيات دون الثامنة عشرة، فالمشكلة لم تعد في الحديث عن زواج القاصرات، وانما عن القاصرات المطلقات، اللواتي ما زلن في مراحل الطفولة وقد احترقن بنارين: نار الزواج المبكر جداً، ونار الطلاق. فأي مستقبل لمثل هذه النساء – الطقلات المتزوجات والمطلقات، واي تفاؤل سندعوهن اليه في الحياة التي ما زالت بأولها، هذا عدا عن جرائم الشرق والاغتصاب الذي أصبح يُعالج كذلك بزواج الغاصب بالمغتصبة، ويكون اثر هذا العمل الوحشي ان تنصب الجهود ليست الى تحقيق العدالة والقانون، وانما على اقناع المرأة، كطرف ضعيف، بالخنوع والقبول بالجاني شريكاً شرعياً، وما أخذ بالقوة بالأمس، يقدم بالرضى الأليم، وضمّت مداخلتي هنا بالدعوة الى المساواة ليست بين الرجل والمرأة فحسب بل بين النساء أنفسهم فالظروف، من فقر وجهل وبطالة وتهجير قد جعلت النساء والعائلات قسمين متباعدين: من الغنى الفاحش الى الفقر المدقع، وشتان بين المرأة التي تعيش في الظروف الأولى وتلك المسحوقة في الثانية والتي تسمع عن الأولى وتنظر اليها بريبة وخشية كأنها قادمة من كوكب آخر.
أما مداخلتي الثالثة فكانت حول المسيحيين في الشرق الأوسط، وقد تكلمنا عن هذا الأمر كثيراً. الا ان خبيراً أممياً في الشؤون الدينية هاينر بيليفيلدت الذي زار الأردن، في أوائل ايلول، وأعطى مشاهداته وملاحظاته السلبية والإيجابية، قال ان الوقت قد حان في العالم اجمع الاعتبار حقوق الأقليات ليس كمنة وعطايا، وإنما كجزء أساسي من حقوق الانسان الشاملة. وكذلك قال انّ فصل الدين عن السياسة لا يلاقي ترحابا في الشرق الاوسط، الا انّه استدرك وقال بما معناه: يا عمّي لاتريدون الفصل التام بين الأمرين، على الأقل حافظوا على مسافة فاصلة بينهما.
ولابد في النهاية من كلمة تقدير وثناء لرئيس وأعضاء البعثة الأردنية الدائمة في جنيف، فما ان علموا بوصولي كمواطن أردني، بادروا الى تقديم كل أمر حسن، وخير ما ينطبق عليهم من مصطلح انهم نشامى ... ليس في كرة القدم بل وفي منتدى يجمع الكرة الأرضية.
بلا شك، كانت خبرة رائعة للمشاركة في منتدى الأمم المتحدة في جنيف.