أعادني مشهد المعاول وفي تحطم تماثيل لينين في مدينة كييف الى ذلك المساء الاوزبكي في طشقند عندما كان الاتحاد السوفييتي في خريفه، فقد زرت اتحاد الكتاب الأوزبكيين لأفاجأ برئيس الاتحاد وهو يشير الى تمثال لينين في مدخل المبنى، ويقول ذات يوم سيكون مكانه تمثال لكاتب من بلادنا، وكانت في تلك الايام رياح الانبعاث القومي قد بدأت تتحول الى أعاصير في الجمهوريات التي تأدلجت بالقوة، فاضطرت الى اخفاء الهوية والهواجس تحت قشرة الايديولوجيا التي ما أن أصبحت هشة حتى اندلع المكبوت القومي والديني، وكان ذلك من بواكير تحلل الامبراطورية الحمراء.
ومن زاروا روسيا قبل عقود يتذكرون الطوابير التي كانت تزدحم بمن يلقون تحية الرفاق على جثمان لينين المحنط، لكن العالم تغير وكذلك الرموز والايقونات، وتحولت المقولة اليسوعية وهي ان الانسان لا يعيش بالخبز وحده الى أطروحة واقعية مضادة للايديولوجيا المجردة، والتي رأى فيها الجيل الجديد شيئا لا يغني ولا يسمن. وكالعادة كان الشعراء والادباء هم أول من عبروا عن الضيق من التشرنق الايديولوجي خصوصاً في الحقبة الستالينية، حيث انتحر شعراء مثل مايكويفسكي وسرجي يسنين واخماتوفا وصدرت رواية لاهرنبوغ بعنوان ذوبان الجليد كبشارة بانتهاء المرحلة الستالينية وما سمي الحياة خلف جدار فولاذي.
والسؤال الذي تستدعيه مشاهد التقديس والتحطيم للتماثيل هو لماذا تتبدل عواطف وافكار الشعوب على هذا النحو الدراماتيكي؟ وكيف يصبح معبود الامس ملعون اليوم، وتتم شيطنة من كان يُنظر اليه كملاك؟
انها طبيعة البشر وجدلية التاريخ فما من شيء يبقى على حاله، أو كما قال شاعرنا العربي: من سره زمن ساءته أزمان...
فالدول تدول والاباطرة تنبش قبورهم وتعاد محاكمتهم، والمقدس قد أصبح مدنساً، لأن التاريخ لا يتوقف عند محطة ما الى الأبد، وهذا سر استمراره وسحر جدليته، انه ماكر حسب تعبير هيجل الشهير، وله كمائن تفاجىء أنصار الحتمية والرهان على مجرى واحد باتجاه مصب واحد!
ان دوافع من يحطمون تماثيل لينين ليست قابلة للاختزال في دافع واحد، فالمسألة تجاوزت الرغيف، وهناك اشواق لدى الشعوب كي تعيش كما تشتهي لكن ردود الافعال تكون احياناً متطرفة ويكون التعامل مع الماضي انتقامياً وثأريا.
ففي أعقاب العهد الستاليني طالب الراديكاليون بتدمير كل ما شيد في عهد هذا الرجل كالسكك الحديدية وبعض الأبنية والمنشآت، وما ان يتلاشى دافع الانتقام وتصفية الحسابات مع الماضي حتى يكف الناس عن التفكير الانفعالي بقلوبهم، ويكتشفوا ان الماضي ليس شراً كله، وان الجديد ليس خيراً كله، لكن لحظة التوازن هذه قد تأتي بعد فوات الأوان، تماماً كما جاءت في العراق بعد خراب البصرة كما يقول مثل شعبي عراقي.
ان اعدام التماثيل الرمزي سواء كان في افغانستان أو في معرة النعمان أو في مدينة كييف هو تعبير مبالغ فيه عن فائض الانفعال والغضب.
وقد لا نحتاج الى كثير من الخيال كي نتصور ما الذي سيحدث بعد مئة عام لتماثيل تشيّد الآن وسط التهليل والتصفيق؟ (الدستور)