بالنسبة لأي إنسان مصاب بداء السياسة والتسيس، فإن من ألطف الأمور على قلبه أن يدمن الناس الحكي في السياسة، وأن تصبح نشرات الأخبار هي مادة نهارهم وليلهم.
هذا معناه أن «الوعي» موجود، والهم الوطني حاضر، وأن الأمل ما زال قائما في شباب المستقبل، طبعا هذه العبارات الأخيرة هي مما نقلته بمعناه عن شيخ من شيوخ الإدمان السياسي ومن معلمي «الكار»، ممن «هرم» في هذا الطريق، وهو يبث لي، ذات بوح، أمانيه التي يريدها من شباب اليوم الذين فقدوا الاهتمام بقضايا الشأن العام.
العرب كلهم أكثر الناس حكيا في السياسة، وأقل الناس ممارسة لها بفهم، كما لاحظ ذات مرة الأستاذ تركي الحمد.
فجأة، وخصوصا بعد تفقيس المنابر اليومي، أصبحت السياسة خبز الناس ومكسرات السهرة، وشحب الاهتمام بأي أمر آخر.
يخبرني صديق أنه كان يعرف ثلة من معلمي مرحلتي الابتدائي والمتوسطة، من معارف وأقارب، كانوا إلى نحو عامين ماضيين لا هم لهم إذا أرادوا إنشاء حدث مشترك إلا الحكي في مباريات كرة القدم وفرقهم المفضلة، وأخبار الطقس والبراري إذا كانوا من هواة التنزه في الصحراء. وقليلا ما يغادرون هذين الأمرين، إلا لما يشابه، لكن منذ هطول ما سمي ربيع العرب، مصحوبا بأبابيل الإنترنت بكل تجلياته من «تويتر» و«واتساب» و«يوتيوب»، وبقية الرفاق الصالحين، تغير المعلمون الطيبون، وصاروا، دون إرادة قاصدة منهم، في خضم الحكي السياسي وانقسامات السياسة.
صار هناك إجبار خفي للجميع من أجل المشاركة في حفلة الخطب السياسية، وجاء هذا على حساب الاهتمامات الأخرى، صاحب الهواية ترك هوايته، أو صار أقل تركيزا عليها حتى يشارك الآخرين حفلاتهم في تطبيقي «واتساب»، و«تويتر»، وغيرهما.
الماء إذا أسقي للعطشان التائه في البيداء بعد انقطاع ليوم أو يومين، قد يميته إذا أتاه دفعة واحدة، ولكن تُبل به شفتاه الذابلتان قطرة فقطرة، وإلا فهو الهلاك المحقق. هذه الأيام قرأت خبرا عن استطلاع جرى للمتابعين في بريطانيا، وكشف عن أن البريطانيين أقل الشعوب الأوروبية متابعة لنشرات الأخبار، بل إن بعضهم غير قادر على تسمية رئيس الوزراء الحالي، وثمة من يعتقد أنه رونالد ريغان، وليس ديفيد كاميرون!
طبعا، لست أظن أن هذه النتائج ستسر صاحبنا الشيخ السياسي الهرم الذي ذكرناه آنفا، ولكن لست أظن أنه سيعد بريطانيا وشعبها يسبحون في بحر الجهل والتخلف.. لست أظن.
بالله عليكم، لا تجففوا براءة الناس في رياح السموم السياسية.
(الشرق الأوسط)