عن احترام الوثائق الناظمة لحياتنا
بلال حسن التل
09-12-2013 01:21 PM
يثير إصدار وثيقة وطنية للنزاهة سؤالاً هو: هل لدينا فقر في الوثائق الناظمة لحياتنا، خاصة في جانبها السياسي؟ والجواب المؤكد: "لا" كبيرة. فلدينا دستور راقٍ جدًا لو أخذنا به لتغيَّر الكثير من واقعنا نحو الأفضل. فدستورنا حدد بشكل واضح طبيعة العلاقات بين سلطاتنا الدستورية الثلاث، وهي علاقة تكاملية؛ لكن ما يجري على أرض الواقع يغاير النصوص الدستورية، حيث تتراوح العلاقة بين السلطات ما بين التغوّل، والسيطرة، والابتزاز. خاصة بين السلطتين التشريعية والدستورية. حيث تتجدد صور الابتزاز في كل موسم انتخابي، وفي مواسم الثقة بالحكومة. والأخطر من علاقة الابتزاز والسيطرة والتغوّل، هو آليات تشكيل هذه السلطات. وهي آليات تعزز من نزعة التغوّل والسيطرة والابتزاز. فما زلنا حتى تاريخه ندور في دائرة مفرغة لم نتمكن بسببها من الوصول إلى قانون انتخاب قادر على فرز مجلس نيابي قوي يستطيع النهوض بأعباء التشريع والرقابة، وهما المهمتان الأساسيتان لمجلس النواب وفق الدستور، وبسبب عدم قدرتنا على فرز المجلس النيابي القوي القادر، فقدت السلطة التشريعية دورها، ومعه فقدت الكثير من هيبتها، بدليل أنها في الغالب لا تكمل مدتها الدستورية، خاصة في السنوات الأخيرة التي كثر فيها اللَّغط حول آليات فرز وتكوين السلطة التشريعية. مما نمَّى الإحساس بعدم جدواها على هذه الصورة. ولعل هذا من الأسباب الرئيسة لتدني إقبال المواطن على ممارسة حقه الدستوري في الانتخاب.
ومثل اللَّغط الذي يدور حول السلطة التشريعية وآليات تشكيلها، وقيامها بمهامها كذلك كثر اللَّغط حول تشكيل السلطة التنفيذية وشخوصها ومهامها؛ وتكرر الحديث عن حدود صلاحياتها، مما صار يُعرف بالولاية العامة للحكومة، ومدى ممارسة الحكومة لهذه الولاية.. إضافة إلى الحديث حول أسس اختيار أعضاء هذه السلطة ومدى أهليتهم للقيام بأعبائها.
ومثل السلطتين التشريعية والتنفيذية واللَّغط حولهما، من حيث أسس التشكيل والعلاقة بينهما، يدور لغط (وإن بدرجة أقل) حول السلطة القضائية، وخاصة علاقتها بالسلطة التنفيذية. وكل هذا اللَّغط أو جلّه حول السلطات الثلاث؛ ما كان ليقع لو طبقت النصوص الدستورية تطبيقًا صحيحًا.
ومثلما ينظم الدستور العلاقة بين السلطات فإنه ينظم أيضًا العلاقة بين المواطن والدولة، على قاعدة "الأردنيون أمام القانون سواء". وهي القاعدة التي لو طبقت تطبيقًا سليمًا لتلاشت نسبة عالية من شكوى المواطن وتبرّمه وإحساسه بالظلم في كثيرٍ من الأحيان.
ومثلما أننا نملك دستورًا راقيًا، فإن لدينا حزمة من القوانين التي لو نفذت بعدل على قاعدة "الأردنيون أمام القانون سواء" لتجنبنا الكثير من مشكلاتنا الإدارية والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، رغم ما شاب الكثير من قوانيننا ذات الطابع السياسي، مثل قانون الانتخاب، وقانون البلديات، وقانون الأحزاب، وقانون الاجتماعات العامة، من قصور في السنوات الأخيرة.
غير حزمة الوثائق التشريعية التي نمتلكها، فإن لدينا حزمة راقية أخرى من الأدبيات السياسية والاقتصادية والإدارية، التي بُذل جهد ووقت كبيران في إعدادها، مثل الميثاق الوطني الذي شكَّل نقطة تلاقٍ لكل أطياف ومكونات الحياة السياسية والاجتماعية في بلدنا، والذي أقر بمؤتمر وطني شامل.. لكن مضامين هذا الميثاق لم تأخذ طريقها إلى حيز التنفيذ في حياتنا العملية، وظل الميثاق وثيقة مركونة على الرف، ومخزونة في ذاكرة من تعبوا في صياغته. تماماً مثلما هو الحال مع مخرجات لجنة الحوار الوطني، وقبلها لجنة الأجندة الوطنية، وكلها وثائق لو أخذ بها لتغيَّر الكثير مما نحن فيه، ولتجنبنا الكثير من المعاناة. ولوفرنا الكثير من الجهد والوقت والمال.
خلاصة القول: إن أزمتنا ليست أزمة وثائق، فلدينا فائض منها مما يشجعنا على القول: إن "الأزمة ليست أزمة نصوص، لكنها أزمة نفوس" ترفض الانصياع لهذه النصوص، أو انها عاجزة عن تمثلها، مما يعني أننا بحاجة إلى بُعد تربوي يروضنا على القبول بالمعاني السامية التي تتضمنها وثائقنا، سواء تلك التي تملك قوة الإلزام، وهي الوثائق التشريعية وعلى رأسها الدستور، أو تلك التي تمتلك بُعدًا أخلاقيًا ومعنويًا، وفي مقدمتها الميثاق الوطني الأردني.
ومثل حاجتنا إلى البُعد التربوي، فإننا بحاجة إلى إرادة حقيقية لتحويل نصوص وثائقنا إلى حقائق على الأرض. فالكلمات تحقق أثرها وتأثيرها من تطبيقها. لذلك قيل "إن الله ليزعُ بالسلطان ما لا يزعُ بالقرآن". وهنا تبرز أهمية الرقابة الشعبية المنظمة القادرة على حماية مضامين نصوص الوثائق الناظمة لحياتنا بكل مكوناتها، وبناء الإحساس بالاحترام لهذه الوثائق عندنا جميعًا.. فما نريده ليس مزيدًا من الوثائق، بل احترام ما هو موجود منها. وتحويل نصوصها إلى حقائق على الأرض.