انقلاب بنيوي في مفهوم الدولة ودورها
د. محمد أبو رمان
03-02-2008 02:00 AM
قطعت الحكومة الأردنية شوطاً كبيراً في تحضير المناخ الشعبي لعملية تحرير قطاع الطاقة والمضي قدماً في تحلل الدولة من التزاماتها الاقتصادية بدعم المشتقات النفطية والعديد من السلع الرئيسة. تجلّت تهيئة المناخ العام بإقرار مجلس النواب للموازنة بأغلبية كبيرة قبل أيام، وقد سبق ذلك إعلان الحكومة عن رفع رواتب القطاع العام، وبناء حملة إعلامية واسعة حول الزيادات المتوقعة إلى أن بات كثير من المواطنين يتساءلون عن الزيادات لا عن رفع الأسعار، على الرغم أنّ هذه الزيادات لا تتناسب مع الزيادات المتوقعة على أسعار السلع!من الواضح أنّ تعامل الحكومة مع رفع الدعم عن المشتقات النفطية يقتصر على الحساسية والتوجس من مسألة «التعاطي الشعبي» مع تداعيات رفع الأسعار، يظهر ذلك في الحرص على تدجين القوى السياسية، والتلويح بالمواجهة معها، وكذلك في وضع حدود كبيرة على دور الإعلام وقدرته على مناقشة السياسات الحالية، بذريعة «حماية الأمن الوطني وعدم التحريض على العنف»، ولا غرابة أن يكون شعار العديد من المسؤولين والإعلاميين هو «تمرير المرحلة»! خاصة وأنّ في الذاكرة الرسمية لا تزال أحداث تمرد وشغب كبيرة حصلت على خلفية الأوضاع الاقتصادية، عامي 1989 و1996، في مدن الجنوب المعروفة تقليدياً بموالاتها للحكم.
سياسات التعامل الرسمي (هذه) تختزل اللحظة التاريخية، التي تشكل منعطفاً حقيقياً في مسار الدولة الأردنية، بالطابع الأمني الآني. فلا تتضمن هذه السياسات أية قراءة استراتيجية معلنة تقوم على إدراك طبيعة التحول الكبير في النسق السياسي والاقتصادي، إذ تشكّل موازنة عام 2008 انقلاباً كاملاً على بقايا مفهوم «الدولة الريعية» على المستوى الاقتصادي (وما نتج عنها من «علاقة زبونية» على المستوى السياسي خلال العقود السابقة بين المواطن والدولة).
ما وصل إليه التحول الاقتصادي اليوم يُؤدي إلى «فجوة وطنية واسعة»، ناتجة عن الاختلال بين المسار الاقتصادي والتحولات السياسية والاجتماعية المقابلة، مما يشكل بالفعل عامل تهديد ليس على الصعيد الأمني المباشر، وهو ما يُقلق المسؤولين، إنّما على الصعيد السياسي العام المرتبط بالإجماع والتفاهم الوطني حول صيغة العقد الاجتماعي ودور الدولة والعلاقة بين المؤسسات السياسية والاقتصادية، وكلها قضايا تتطلب حواراً وطنياً عميقاً، غاب تماماً عن جلسات الموازنة في البرلمان، وكذلك عن المناظرة الإعلامية حول الموضوع، وأصبح ملف الأسعار وكأنّه كرة ملتهبة تتقاذفها الأطراف المختلفة، لا استحقاقا اقتصادياً وسياسياً تاريخياً يتحمّل السياسيون والمواطنون والإعلاميون جميعاً مسؤولية التعامل معه.
هذا التحول الكبير (في دور الدولة الاقتصادي) كان مضمون تقرير مهم صدر عن مؤسسة «كارنيغي إنداومنت» الأميركية قبل أشهر، بعنوان «إعادة التفكير في الإصلاح الاقتصادي في الأردن: مواجهة الوقائع الاقتصادية والاجتماعية»، للخبير في السياسات الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط الدكتور سفيان العيسة. ويشير التقرير إلى أنّ المعضلة البارزة في برنامج الإصلاح الاقتصادي الأردني هي عدم القدرة على إعادة إنتاج العلاقة بين الدولة والمجتمع، ما يسمح بالالتزام بمضامين الإصلاح الاقتصادي المطلوبة كافة، التي تتضمن أبعاداً سياسية واجتماعية حيوية وضرورية لإنجاح الإصلاح وتلافي انحرافه عن الطريق.
تكمن الإشكالية الرئيسة، التي يضع التقرير يده عليها، في سؤال التقاسم التاريخي الوظيفي بين فئة اجتماعية هيمنت على القطاع العام (الأردنيون من أصول أردنية) وأخرى هيمنت على القطاع الخاص (الأردنيون من أصول فلسطينية)، ما يُحيل إلى أبرز معوِّقات مشروع الإصلاح الاقتصادي أو بعبارة التقرير «فهم مقاومة الإصلاح»، إذ يُقسِّم التقرير مقاومي الإصلاح إلى فئتين: الأولى، طائفة يسميها «الأقل حظوة»، ويشير هنا إلى فئات فقيرة وضعيفة كانت تعتمد على الغطاء الاقتصادي من الدولة، الذي كان يوفر تاريخياً ضمانةً من البطالة والفقر والجوع، ثم أدّى انحسار دور الدولة إلى شعور هذه الفئات العريضة (بخاصة في المحافظات) بغياب شبكة الأمان والحماية وتعرضها لأزمات اقتصادية. والفئة الثانية (من أعداء الإصلاح) هي النخب السياسية والاقتصادية التي تتضرر مصالحها من برنامج الإصلاح الاقتصادي، فتسعى إما إلى تبطيئه أو عرقلته أو حرفه عن مساره، وإذا كانت النخب التقليدية البيروقراطية تتهم بالعرقلة ومحاولة التبطيء، فإنّ التقرير يشير إلى النخب «الجديدة» التي تحرف البرنامج لخدمة مشاريع اقتصادية خاصة بها أو بمن لها علاقة بهم.
المثير في الموضوع أنّ تقرير كارنيغي صدر قبل أشهر، أي أنه سبق إقرار الموازنة الحالية التي تخطو بصورة أوسع وأكبر نحو «لبرلة الاقتصاد الأردني»؛ لكن بدلاً من وجود حكومة سياسية لها رصيد من الخبرة والقدرة على إدارة الحوار الوطني لعبور هذا المنعطف التاريخي - وما يثيره من إشكاليات وحساسيات داخلية- جاءت حكومة لا تمتلك أية خلفية سياسية حقيقية للتعامل مع الشأن الاقتصادي، وكأنه استحقاق قائم بذاته لا سياسات تصيب حياة الناس اليومية وتضرب على الوتر الحساس من علاقة المواطن بالدولة.
ولم تكن مخارج الانتخابات النيابية أفضل حالاً؛ فقد أدت الحسابات الرسمية، وبالتحديد سؤال الأزمة مع الحركة الإسلامية، إلى برلمان ضعيف سياسياً، مع شغور مقعد المعارضة فيه، وبروز واضح لنخبة ليبرالية جديدة مع غياب ممثلين عن الطبقة العامة التي تعاني من تداعيات السياسات الاقتصادية.
أمام تحول اقتصادي بنيوي وتاريخي ينعكس على مفهوم الدولة ذاته، في ظل ضعف شديد يصيب الدور السياسي للحكومة والبرلمان، فإنّ السؤال الرئيس: من سيتعامل مع الاستحقاق السياسي التاريخي المرتبط بهذه التحولات؟!
* كاتب أردني / عن الحياة