بعد أن يفرغ الجنرالات من أعمالهم تباشر الدبلوماسية إعادة ترتيب المشهد ليكون صالحا للحياة، تحت هذا المبدأ أسهم الأمريكيون في إعمار ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وفي المرحلة الأولى بعد الحرب، أو التسخين للحرب، تكون الدبلوماسية في أعلى مستوياتها، ترسم الطرق الاستراتيجية وتترك التفاصيل للأجهزة المختصة في مرحلة لاحقة.
بعد حرب 1973 كانت الرسائل الدبلوماسية تطير عبر المنطقة، ومرورا بعواصم أوروبية شرقية وغربية على مستوى الرؤساء، وكان الجميع منصتا لأي إشارة وأقل إشارة تنطلق من عواصم الصراع العربي - الإسرائيلي.
قبل جنيف 2، وبعد التودد الأمريكي - الإيراني، يبدو أن الجنرالات أدركوا تعذر الحلول التي يحملونها، وأفسحوا المجال للمرجعيات الدبلوماسية لتعيد التمركز باتجاه مرحلة جديدة من الترتيبات السياسية الواسعة النطاق.
ضمن هذه السياقات يمكن قراءة الزيارة الملكية الأخيرة للعاصمة البلجيكية (الأوروبية) بروكسل، دون أن يتناسى المتابعون، أن بروكسل هي مقر البرلمان الأوروبي، وبذلك تكتسب مدينة الشيكولاتة والزهور أهمية كبيرة في السياسة، خاصة إذا بدأ الحديث يتجه نحو السلام والتهدئة.
المواقف الأردنية حيال ما يجري في المنطقة تبدو أحيانا مرتبكة، ويرجع ذلك إلى أن الأردن بشكل أو بآخر، طرف في جميع ما يجري، فالأردن لا يقع في أمريكا اللاتينية ولكنه يتماس مع ثلاث جبهات ساخنة في المنطقة، سوريا والعراق واسرائيل، وجميع هذه الجبهات تنتظر تسويات أو على الأقل حلولا عاجلة.
الجبهة السورية كانت حاضرة أثناء الزيارة، وكانت رسالة الملك في ذلك الخصوص التأكيد على موقف الأردن الذي يدعم حلا سياسيا للأزمة السورية يحمي وحدة سوريا أرضا وشعبا، وبذلك تتلاقى الرؤى الأردنية مع نظيرتها الأوروبية التي ترى أن صراع المصالح الأمريكية - الروسية في شرق المتوسط أمر من شأنه أن يتعارض في المدى البعيد مع المشروع الأوروبي المتوسطي، وأن يهدده بصورة عميقة.
الملك في الجبهة الثانية يتقدم أيضا برؤية أردنية بدت للأوروبيين غير قابلة للنقاش، وتقف بصلابة أمام (الفانتازيا) السياسية التي يمكن أن ترى الحل خارج إطار الدولة الفلسطينية المستقلة، وتراهن على إمكانية المغامرة في قضايا الوضع النهائي، وأردف الملك في إشارة مهمة الى أن هذه المسألة تشكل مصلحة استراتيجية أردنية عليا، وهذه الرسالة أوضحت للأوروبيين الذين بدأوا يحاولون الحصول على دور أوسع بخصوص القضية الفلسطينية الحدود التي يمكن للأوروبيين المناورة في فضائها، في حالة ما رغبوا في الاستمرار بعلاقات متميزة مع الأردن وغيره من الأطراف العربية المعنية.
الأوروبيون بدورهم يدركون أهمية الأردن في المعادلة الخاصة بالمنطقة، وكانت الوصف المدروس لرئيس المجلس الأوروبي هيرمان فان رامبوي للأردن بأنه جزيرة أمن واستقرار في منطقة ملتهبة، يدلل على أن الأوروبيين يرون في عمان مركزا مهما لتحركاتهم في المنطقة، وبذلك يتضح أن الأوروبيين يفكرون جديا في عمان التي تبدو واضحة في استعدادها للتعاون في أي مبادرة لإحلال السلام في المنطقة، وعلى مختلف جبهاتها، في الوقت الذي ربما يتبادل الأمريكيون مواقعهم التقليدية في القاهرة وطهران مع تعديل في شروط التراشق.
في موازاة المحاور التي تهم الأوروبيين، أوضح الملك ما يحتاجه الأردن لتمتين أوضاعه في المنطقة الساخنة التي تسعى بروكسل، بوصفها عاصمة أوروبية، أن تخطو إليها، متهيبة وقلقة، فالأردن يحتاج إلى تعزيز التعاون مع أوروبا، وهو ما بدأ يتحقق عمليا في الفترة الوجيزة الماضية صفة الدولة المتلقية لاستثمارات ومساعدات البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، والملك يسعى إلى دفع الأوروبيين لإدراك التحديات بعيدة المدى خارج القارة العجوز، والتي وإن لم تحمل تأثيرات مباشرة على أوروبا، فهي ستطرح نفسها عاجلا أم آجلا للتأثير على المصالح الأوروبية، ويحاول أن يحسن شروط التعاون القائمة، وأن يدفعها قدما.
الأردن أوضح مواقفه قبل مرحلة جديدة من تاريخ المنطقة تقتضي إعادة التموضع بناء على نتائج الربيع العربي، وينتظر أن تقدم مجموعة أخرى من الدول العربية على بناء مواقفها خلال الأسابيع القادمة، وخاصة بالنسبة للأوروبيين الذين يبحثون عن شركاء وليس وكلاء في المنطقة.
(الرأي)