"رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني.. يا مصر إنتي اللي باقية وإنتي قطف الأماني".
كم رددنا هذه الأغنية. لعلها لم تكن الأجمل بين أشعار أحمد فؤاد نجم وأغاني الشيخ إمام، لكنها كانت مخصصة لنا نحن الطلبة في تلك الأيام. وقد جاءت بعد احتجاجات طلابية فريدة في مصر عبدالناصر، تتغنى بعودة الطلبة إلى الساحة السياسية "لا كورة نفعت ولا أونطة ولا المناقشة وجدل بيزنطة".
في أجواء ما بعد النكسة، العام 1967، ظهر خطاب ثوري يشحن النفوس بروح التمرد على الأنظمة القمعية الفاشلة، التي أشبعتنا شعارات ثم جعلتنا نتجرع ذل الهزيمة والمهانة. وظهر خطاب يساري يستلهم التجارب الثورية الناجحة في فيتنام وكوبا، وأفكار حرب التحرير الشعبية والمقاومة المسلحة. وظهر هذا الثنائي الفريد؛ الشاعر أحمد فؤاد نجم يكتب، والشيخ الضرير إمام عيسى يلحن.
كم رددنا أغاني إمام وأشعار نجم المشبعة بالسخرية والتمرد والثورة، والانحياز للطبقات الشعبية؛ للفلاحين والعمال والصنايعية والمسحوقين.. "شيد قصورك عالمزارع.. من كدنا وعرق إيدينا، واطلق كلابك في الشوارع.. واقفل زنازينك علينا".. و"هما مين واحنا مين.. هما الأمرا والسلاطين، هما بيلبسوا آخر موضة.. واحنا نسكن سبعة في أوضه". وكذا السخرية من المثقفين البعيدين عن الشعب: "يعيش المثقف على مقهى ريش.. محفلط مزفلط كتير الكلام.. عديم الممارسة عدو الزحام"؛ وفي المقابل: "يعيش الغلابة بطي النجوع.. نهارهم سحابة وليلهم دموع". وهذه القصيدة "يعيش أهل بلدي"، مخصصة لنقد خطاب النظام الناصري عن "تحالف قوى الشعب العامل"، والذي قادنا لهزيمة 1967، والتي علق عليها نجم بقصيدة قادت إلى حبسه "الحمدلله صبّاطنا تحت باطتنا.. يا محلا رجعة ضبّاطنا من خط النار، الحمد لله أهي زاطت.. والبيه حاطط.. في كل حته بيه ضابط.. وان شاء الله حمار، الحمد لله ولا حوله مصر الدولة.. غرقانا في الكدب علاوله والشعب احتار".
وفي الوقت نفسه، كانت أشعار نجم تضج بالوطنية والتحريض على التضحية والثأر للكرامة، ورد الصاع للعدو الذي أذل مصر والأمة العربية في حزيران. وقد حفظنا عن ظهر قلب رسالة الأب الفلاح إلى ولده الجندي "عبدالودود" على الجبهة أيام حرب الاستنزاف.
كنا طلبة في الجامعات مطلع السبعينيات، نبني ثقافة يسارية جذرية؛ نقرأ الكتب والوثائق السياسية، وننشط ملتصقين بقضايا الوطن في بلدان الاغتراب، ونسمع أغاني الشيخ إمام ونقرأ أشعار نجم؛ وكان الثنائي اكتشافا جديدا رائعا، أطرب سهراتنا بالغناء الثوري البديل.
ومع أن نجم عانى من السجن والقمع أيام حكم عبدالناصر، فقد ظل يدافع عنه في الحقبات اللاحقة التي شهدت الارتداد عن ثورة يوليو، والمكتسبات الشعبية، ثم الصلح مع العدو. وبلغت شعبية نجم ذروتها عربيا وعالميا مع رفيقه الشيخ إمام في المرحلة الساداتية. وكان تأثيرهما طاغيا، يردد المتظاهرون أغانيهما. وكان نجم وإمام يتسللان إلى الجامعات في القاهرة يغنيان للطلبة المتظاهرين خلف أسوارها. واستمر نجم بعد وفاة رفيقه إمام نجما ثقافيا ساطعا، يدعى لإلقاء قصائده في كل مكان في العالم العربي، ولدى الجاليات العربية في أوروبا وأميركا، وتستضيفه القنوات التلفزيونية. ويستمر إنتاجه المدهش؛ لا يتأثر بتقدم العمر، ولا يني شعره يواكب الأحداث ويعلق عليها، ويصبح أكثر نضجا وجمالا، ويساهم في حياة مصر الثقافية والفنية. وكان نقد نجم لمبارك وعائلته بقصائد لاذعة وساخرة، قد ساهم في دك هيبة النظام وزعامته.
ويدرك شاعر العامية المصرية الأبرز ثورة يناير 2011، وقد تجاوز عمره الثمانين، فيرى بعينيه ما بشر به طوال عمره. وبحسب ما نُقل، فإن آخر كلامه مداعبا به صديقه: "خلي بالكم عالميدان". (الغد)