قبل أربعين عاما، كان لـ"التعريفة" معنى وقيمة. وكان يمكننا أن نذهب بها إلى الدكان (لم يكن يوجد في الحي ولا الأحياء المجاورة "سوبرماكت"، ولم يكن في عمان كلها "مول")، ونطلب حلوى، أو "قضامة"، أو "حبة علكة" مثلا. ولم يكن البائع يستغرب عندما نقول له: نريد بـ"تعريفة" كذا أو كذا.
كان لـ"التعريفة" قيمة شرائية؛ يمكن أن نجلب بها حاجات معينة. وكانت قيمتها مضاعفة في أوقات مضت. وكثيرا ما حدثنا الأهل عن قيمتها الكبيرة، وكيف كان يمكن أن يستقلوا بها الباص، ويشتروا أغراضا أكثر.
ولمن لا يعرف "التعريفة"، فهي أقل من القرش، وتساوي 5 فلسات بالتمام والكمال. ولم أعد أراها إطلاقا في متناول الباعة والناس، بسبب فقدانها لقيمتها الشرائية. وعلى الأغلب أنها دخلت متحف العملات في البنك المركزي، ولم تعد تُصنع.
أطفالي، مؤيد ويارا ومراد، لا يعرفون "التعريفة" ولم يروها. وأعتقد أن أطفالا أكبر منهم سنا لا يعرفونها أيضا. وحتى القرش أعتقد أنهم لا يعرفونه، إلا إذا أرادوا أن يلعبوا، مثلا، لعبة معينة تتطلب وجود قرش أو 5 قروش.
حكومتنا "الرشيدة"، أعادت إلى ذاكرتنا وذهننا "التعريفة"، فبات الأطفال يسألون عن قيمتها؛ وذلك عندما خفضت الحكومة (نعم خفضت.. لما العجب؟!) سعر لتر السولار والكاز "تعريفة"؛ أي 5 فلسات، دفعة واحدة.
فالحكومة، وفي ظل التوقعات بخفض أسعار المحروقات بنسب تتراوح بين 1.5 و 2 %، خرجت علينا بتثبيت سعر البنزين، وتخفيص سعر السولار والكاز "تعريفة".
البعض لم يتخيل أن الحكومة خفضت الأسعار "تعريفة"، فتبادر إلى ذهنه أن التخفيض كان 5 قروش (أو "شلن")، لأن أولئك يبدو أنهم نسوا التعريفة تماما.
القصة ليست في "تعريفة الحكومة"، ولكني كنت آمل، كما أناس كثر مثلي، أن تخرج علينا الحكومة يوما لتقول إنها خفضت سعر مادة معينة، وإنها جريئة في التخفيض، كما هي جريئة في الرفع.
خاب ظني وأملي، وبقيت الحكومة متمسكة برؤيتها وموقفها تجاه الرفع، ولم ترد أن تخيب الظن فيها، ولم تفعل ما يؤشر لعكس ذلك. وحتى عندما ارتفعت التوقعات بتخفيض معين، أصرت ولم تجد علينا سوى بـ"تعريفة".
نعرف أن القيمة الشرائية للدينار انخفضت منذ أعوام، وأن الوقت الراهن غير الوقت قبل أربعين عاما، وأن ما كان يشترى بمبالغ زهيدة سابقا، لم يعد كذلك حاليا. ولكنني أعرف أيضا أن حجم الفقر تضخم، ورقعة البطالة توسعت، والطبقة المتوسطة تلاشت تماما، ومستوى المعيشة ارتفع، والرواتب ما تزال على حالها، وأسمع أناسا يشكون الفقر ليل نهار.
كل ذاك نعرفه، ونعرف أيضا أننا بتنا لا نزرع إلا القليل، ونستورد الكثير، ونصنع أقل بكثير مما يرد إلينا من الآخرين، وأن أراضينا الزراعية طالها العمران والإسمنت، وسهولنا بتنا لا نرى فيها لا حقول قمح ولا شعير، وغورنا بات يشكو من قلة المردود، ومُزارعنا أثقلته الديون، وتاجرنا يئن من مطالبات البنوك وتعثر الأسواق، وسائقنا وجهته باتت واحدة بعد أن كانت متعددة، وطالبنا يذهب إلى الجامعة بخوذة وواقي رصاص، وطفلنا يكد أبوه لتوفير الحليب له، وشيخنا يتأسف على أيام زمان، وفقيرنا تعضه الفاقة، وميسورنا يجهد للحفاظ على ما يملك.
وأعرف أيضا أن الحكومة، أي حكومة، تكون مسؤولة مسؤولية تامة عن مواطنيها، وتوفير الأمان الاجتماعي، وبعض (لا أريد أن أقول كل) الأمان الاقتصادي. كما مسؤولة عن الحفاظ على الرقعة الزراعية، والطبقة الوسطى، وتوازن الأسعار، وتوفير فرص العمل، فهل تفعل الحكومة ذلك؟!
على العموم، خالفت الحكومة توقعاتنا، وأرادت أن تذكرنا بـ"التعريفة" التي نسيها الناس، ولا تعرفها أجيال كاملة؛ فباتت قصة "التعريفة" حديث مواقع التواصل الاجتماعي والمجالس الاجتماعية.
(الغد)