لا تعاني الصحافة في هذه الأيام مما كانت تعانيه في الماضي. فالصحف الرئيسية تبيع ألوف النسخ يوميا وتزدحم بالإعلانات المربحة وأحيانا تحظى بدعم إحدى الجهات. ولكنها في الماضي البعيد وفي بلد كالعراق لم تبع أكثر من بضع مئات يوميا ولم يعبأ المعلنون بها ولا انتبه المسؤولون لأهميتها الإعلامية. وعاش الصحافيون عيشة الكفاف وكان الكتاب يكتفون بماعون كباب أجرة لمقالاتهم.
انتبهت جريدة «المنار» العراقية لمقالاتي الفكاهية فدعتني لمساهمات أسبوعية بأجرة مشروطة «شرط السكين» كما نقول في بغداد. وهو أن الدفع يتوقف على ما سيزيد من مبيعات الجريدة بسبب مقالاتي. رحت أحث الناس على شرائها، بل وطفقت أحمل نسخا منها وأطوف في المقاهي والمجالس أغري الناس بشراء «المنار»، لعل صاحبها يدفع لي أجرتي. فطنت أخيرا إلى أنني تحولت من كاتب صحافي إلى بائع جرائد!
اضطرت بعض الصحف للاعتماد على الاشتراكات. وكانت مهمة أعسر وأزعج، إذ توقفت على نجاح صاحبها بإقناع المسؤولين وبعض الوجهاء بالاشتراك فيها. كان ممن عانوا من هموم الصحافة الملا عبود الكرخي صاحب جريدة «الكرخ». بث همومه بقصائد كثيرة:
يكون أعضه من وريده
اللي قال لي صدر لك جريدة
لأن زيدت لي همومي
وصار راسي بالمصيدة
لكنه اهتدى لعملية الاشتراكات وتوسع فيها، بعد أن استنزف كل معارفه في بغداد راح يطوف المدن والقرى للحصول على اشتراكات من أهلها. كان شاعرا شعبيا سليط اللسان. فحول العملية إلى ابتزاز. تشترك وأسكت عنك، أو ترفض فأهجوك بقصيدة لاذعة عصماء أهتك بها عرضك وعرض كل أسرتك!
جرته الحملة إلى مدينة الناصرية. وبعد أن استطاع أن يحصل على اشتراكات سائر الموظفين والمسؤولين، انتقل إلى وجهاء المدينة. كان منهم أبو سليم الصراف، أحد تجار اليهود وصيارفتهم. اعتذر هذا قائلا: «بقى أنا لا افتهم بالشعر ولا أقرا جرايد. على إيش اشترك بالجريدة؟ تعذرني».
ولا يهمك، أجابه الشاعر ثم جلس في مقهى أبو ياسين. لم يطلب منه الشاي والقهوة فقط، بل والقلم والورق. كتب قصيدة في الحال يهاجم فيها أبو سليم الصراف بأبشع الكلام. استهلها بهذا المطلع المشرق:
بالناصرية صراف أكبر حرامي وبلّاف
اطلع القوم عليها فأسرعوا لتحذير أبو سليم. نبهوه بأن الكرخي سينشر قصيدة تنسف كل كيانه في السوق وتتهمه بالعمالة والصهيونية. ادفع بالتي هي أحسن. نصحوه. فدفع له عشرة دنانير. هات القصيدة لنمزقها. قالوا له، فقال لا: اتركوا الموضوع لي. قرأوه في اليوم التالي في «الكرخ» وقد غير كل شتائمها إلى مديح رائع للصيرفي اليهودي. بدلا من «بالناصرية صراف.. أكبر حرامي وبلّاف»، قرأوا:
بالناصرية صراف
خوش آدمي وعنده إنصاف!
وعاد الكرخي إلى بغداد محملا بالدنانير وهدايا الدجاج والبط. وكانت أيام يا سادة وفاتت.
(الشرق الأوسط)