نظر العرب إلى الرقص كمهنة رخيصة، فيها من التعري أكثر مما فيها من الفن، ومن الإغواء أكثر مما فيها من الموهبة.
ولم يخفوا شعورهم هذا في الصحافة أو المجتمع أو السينما، خصوصا المسرح. ووردت الإشارة إلى الرقاصة (لا الراقصة) في صيغة الامتهان والازدراء على لسان كبار الكوميديين. ولعبت سيدة الرقص الشرقي، أو أسطورته، تحية كاريوكا، في «خلّي بالك من زوزو» دور الأم الراقصة التي تشكل مبعث خجل لابنتها الجامعية (سعاد حسني)، مؤكدة بذلك على رتبة الراقصة في المجتمع المصري، فهي لا تنحدر بها وحدها، بل بمن حولها أيضا.
لكن إذا كان من امرأة رفعت من تلك المرتبة فهي تحية كاريوكا، أو بدوية علي محمد كريم، التي تسمت باسم الرقصة اليونانية التي تؤديها.
قررت بدوية محمد كريم أن الرقاصة ليست أقل وطنية من غيرها، فشاركت في الأعمال الفدائية ضد الإنجليز أيام الملك فاروق، ثم في عدوان السويس، وتزعمت حملات التبرع للفلسطينيين، خصوصا فترة الانتفاضة، وطالما ساعدت المحتاجين من فناني مصر الذين حط بهم الدهر.
عندما زارها إدوارد سعيد في أيامها الأخيرة رأى سيدة محجبة الرأس، محتشمة بالأسود، فلما لاحظت عجبه قالت له «لقد تحجبت عندما تحجبت مصر». كتب عنها اثنان من كبار المثقفين والجامعيين العرب بإعجاب مشبوب بالمحبة ومفعم بالاحترام: إدوارد سعيد نفسه والدكتور جمال أمين، الذي افتتن بالفن المصري، ليس مثلنا كهواة ومتفرجين، وإنما كابن بلد، يدخل إلى المسرح، كما يذهب إلى ملعب الكرة، محازبا ومتحمسا ومشرعا كل حواسه على التأثر والالتقاط.
وبهذه الصفة، أي الصفة المصرية، لم يجد خيرا في الانتقال من الكتابة عن ابن خلدون إلى الكتابة عن تحية كاريوكا، أو عن ليلى مراد، المغنية الفاتنة التي تركت المصريين يتشوقون إلى ظهورها، فيما دخلت العزلة التامة، لا سينما ولا مسرح ولا حتى مقابلة صحافية، لحظة بلغت الأربعين من العمر. ولا ينتبه أن يقول لنا نجل قاسم أمين في «شخصيات لها تاريخ» أنه سبقتها إلى ذلك السويدية غريتا غاربو، التي كانت أشهر وجه وأجمل عينين في هوليوود، عندما قررت الغياب الدائم حتى الغياب الأخير.
يحتفل المواطن جلال أمين بالبنت الفقيرة الأخاذة العينين التي جاءت من الإسماعيلية إلى القاهرة أواسط الثلاثينات. فقد «مَصّرت» الرقص وأزاحت اللبنانية بديعة مصابني، تماما كما صار المصري يوسف وهبي سيد المسرح بدل اللبناني جورج أبيض. لقد انتهى عصر سيطرة الشوام والأرمنيات على «الرقص الشرقي». هل يمكن أن تقول «الأهرام الشرقية»؟
(الشرق الأوسط)