قبل ان نغادر حواراً طويلاً ولكن ساخناً وصريحاً مع رئيس الوزراء الليبي علي زيدان، أعقبته مداخلة قصيرة وخصوصاً ثريّة وكاشفة وجريئة من وزير الخارجية محمد عبد العزيز الذي وصف قانون العزل السياسي الذي اصدره المؤتمر الوطني العام (مجلس النواب) لإقصاء «كل» من عمل في ادارة القذافي بأنه «كارثي» ولا يخدم اهداف الثورة، استأذن وزير الثقافة الحبيب الامين، زيدان.. الكلام، فتحدث بهدوء وبلاغة متكئاً على اوصاف ومصطلحات ومفردات صبّت كلها في خدمة العبارة المثيرة والجوهرية التي طرحها بمرارة وهي ان «الاخوة» في بلاد العرب وخصوصاً صحفيين وكتّاباً وسياسيين وحزبيين لم يفهموا حتى الان حقيقة ما جرى ويجري في ليبيا، وتحديداً طبيعة «التركة» الكارثية والرهيبة التي خلّفها نظام القذافي على مجمل المشهد الليبي وتفاصيل حياة الليبيين.
ما قصدته او ما تمنيته، لو أن وزير الثقافة الذي بدا وكأنه الرجل المناسب في المكان المناسب مقارنة بوزراء ثقافة عرب لم يقرأ بعضهم كتاباً في حياته ولا يعرف آخرون منهم ما إذا كان سارتر فيلسوفاً ام ممثلاً سينمائياً (دع عنك بيكاسو او لوركا او حتى واسيني الاعرج).
أقول: تمنيت على الوزير الأمين، لو انه وبعد انتهاء حوار الساعتين مع السيد زيدان، طرح علينا سؤالاً مفاده إذا ما كنا قد استوعبنا (بعد انتهاء الحوار) طبيعة وملابسات ومسارات الحدث الليبي المتمادية فصوله، والذي لا يزال يتواصل نزفاً وقتلاً ودماً وفوضى وفلتاناً أمنياً وغياباً شبه كلي لسلطة الدولة (التي هي بالفعل «لا دولة» ورثها الثوار عن الأخ العقيد مفجر ثورة الفاتح العظيمة، التي لم تنجح في شيء سوى، تجويف الحياة السياسية والفتك بقوى الليبيين الحيّة وإفقار الشعب الليبي وتبديد ثرواته وتكريس البلاد، مزرعة لأبنائه والعصابة التي بقيت الى جانبه).
ساعتان من الاسئلة والاجابات التي استفاض السيد زيدان في بعضها وكان غامضاً في معظمها وحريصاً على عدم الخوض في سجالات وجدل مع خصومه او حلفائه او حتى من يطمع في استمالتهم من احزاب وحركات ومنظمات مجتمع مدني (أهي موجودة؟) وحتى ميليشيات وكتائب، كشف في استطراداته (القليلة) ان 95% من الشعب الليبي مع دولة القانون والاستقرار ووجود الجيش والشرطة، ولا يريدون كتائب مسلحة ولا ميليشيات..
الخوف على ليبيا ومستقبل خريطتها الجغرافية كما الديموغرافية، لم يغادرني حتى بعد الحوار مع رئيس الوزراء الذي كان حميمياً ودافئاً، يتحدث في صوت خفيض تكاد تحس انه من فرط الألم الذي يستبد به ازاء ما يحدث في بلاده، «... لكننا لسنا في دولة طبيعية ونسير في محاولة اعادة لبناء الدولة تدريجياً، حيث تم تشكيل هيئات للحوار الوطني، للعمل على تقوية شوكة الدولة لمواجهة المسلحين والخارجين على القانون، رغم اننا في مرحلة ثورة والثورة هي وحش كاسر والوضع في ليبيا صعب، وأنا اتعامل مع «المزاج» الليبي وهو متغير ورغم ذلك فاننا نشهد تطوراً ايجابياً افضل، رغم انه قليل الا انه متزايد، فيما يراه من هو خارج ليبيا.. سوداوياً» قال السيد زيدان.
ألم تَعِدوا الليبيين... بالديمقراطية؟
سُئل زيدان، فأعاد العبارة التقليدية التي سمعتها معظم الشعوب العربية منذ السنوات الاولى لرحيل الاستعمار وهي ان الديمقراطية دُرْبة وتراكم (..) ثم لا يلبث الرجل في مكان آخر تذكير الحضور بالحال التي كانت عليها ليبيا بعد سقوط القذافي، (حيث انهارت «الدولة» فغاب الأمن ويعلم الجميع ان البوليس ضروري والجيش ضروري والامن كما هو معروف ضروري لكل الناس).
يبذل المسؤول الليبي الكبير- الذي كشف بأن المنصب الاول في ليبيا الجديدة هو لرئيس المؤتمر الوطني، الا انه كرئيس للوزراء على إطلاع والمام بكل القضايا والملفات الوطنية-جهوداً كبيرة لاقناع محاوريه او للاضاءة على ما التبس عليهم او بدا لهم غير منطقي أو مبرر، وخصوصاً في ظل غياب الامن وسطوة الميليشيات وبروز الجهوية والمناطقية والقبائلية ليقول في النهاية، في ما يشبه الاعتراف بالأمر الواقع، «أن المهمة الاولى الآن إخراج الكتائب المسلحة من المدن، ليصار لاحقاً الى الغائها بقرار شعبي، واذا ما حدث ذلك يصبح حل المشكلات الاخرى.. ممكناً».
عليّ الاقرار بأن ما سمعته من رئيس الوزراء الليبي والوفد المرافق، زاد من قلقي وخوفي على ثورة 17 شباط، رغم ان السيد زيدان لم يتخوف من وجود «قلق» كهذا لدى من يرون ليبيا من الخارج، لأنه اصلاً يُحيي هذا القلق؟ فهل تنجح حكومة زيدان بتبديد قلق الليبيين أنفسهم وخوفهم على مصالحهم ومستقبل بلدهم؟
استدراك: رئيس الاركان الليبي عبدالسلام جاد الله العبيدي طالب يوم أمس، المسلحين إخلاء مرافئ النفط التي يسيطرون عليها بدون شروط، لأن ليبيا-كما قال-مُهددة بالتفكك والإنفلات الأمني (!!).
(الراي)