يطلق على القضاء المصري اسم الشامخ، ربما لأنه يوصف بالاستقلالية، فمثل هذه الأسماء الرنانة اشتهر بها العرب منذ القديم، فإن الشاعر مدح، فإن ممدوحه لا مثيل له، وإن هجا فإن مهجوه هو الأسوأ؛ لذا كثرت عندهم ألفاظ مثل أم الدنيا، وأمير الشعراء، وفتح الفتوح، وملك الملوك .... وقضاؤهم إذا لا بد أن يكون هو الآخر الأكثر استقلالية ونزاهة!
لا أريد محاكمة الاسم إن كان صحيحا يصف الواقع أم لا، ولكن القضايا التي عالجها مثل قضايا الانتخابات في عهد مبارك، وبراءة سدنة نظامه وأبنائه من تهم الفساد، والمتورطين في معركة الجمل....كلها تجعل المصريين وغيرهم من المتابعين للشأن المصري يرون أنها محاكمات يشوبها العَوار، ويتشككون في هذا الشموخ، ناهيك عن الاستقلالية، والعدالة، والنزاهة.
لكن الأمر الذي أصبح اليوم واقعا ملموسا بعيدا عن أي شك هو الحكم الأخير الذي أثار ردود فعل واسعة من الرفض والسخط والتندر في آن واحد، داخل مصر وخارجها؛ وهو الحكم بسجن 14 فتاة لمدة 11 عاما لتظاهرهن بالبالونات، بينما وضعت أخريات يتراوح عمرهن بين 15 و 18 عاما دارا للقاصرات حتى يبلغن سن الرشد القانوني.
الحكم على الفتيات شكل صدمة لكثير من المصريين وغيرهم، إذ أن القضاء لم يقل أن هذه البلالين مليئة بالمتفجرات –مثلا- أو كتب عليها نقد للسادة الانقلابيين أو أي شيء آخر، ولكن يبدو أن الأمن المصري بات يخشى من نفخة بالون لطفلة مصرية، فرأى في إيداعها السجن شموخا!
المفارقة الكبرى أن هذا القضاء الشامخ اكتفى بحبس قناص العيون الذي اشتهر بقنص عيون المتظاهرين في أحداث محمد محمود الأولى مدة 3 سنوات فقط!
إن المفارقات الصارخة باتت اليوم تغلب على حكام مصر، ففي حين كان الانقلابيون قبل شهور قليلة فقط يحثون الشعب المصري على الخروج والتظاهر، بل حشد الملايين لأجل عزل مرسي، أصبحوا اليوم يسنون القوانيين لمنع التظاهر، وهم الذين وصلوا للحكم بواسطة التظاهر!
لكن المفارقة الكبرى أن الموضوعين الرئسيين اللذين اهتمت بهما الصحف البريطانية في تناولها لشؤون الشرق الأوسط قبل أيام كانا : سجن الفتيات في مصر، وسعي إسرائيل لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة!
نعم قاصرات الأمة العربية إما يبعن بثمن بخس في مخيمات اللجوء السوري أو يودعن في سجون بلادهن، أو يتعرضن للمهانة في أنحاء كثيرة من عالمنا الشامخ النزيه، أما إسرائيل التي مازال يرفض كثيرون الاعتراف بوجودها، فهي تحلق يوما بعد يوم في مجالات العلوم المختلفة لخدمة شعبها، وتراقب العرب في تراجعهم، وتطاحنهم على كراسي غبائهم!
يقولون إن السياسي المحنك هو الذي يقرأ التاريح جيدا، ويتعلم من أحداثه، فكيف بالساسة الذين لا يعرفون قراءة الحاضر؟! فالذين يؤرخون لأحداث سوريا يرون أن حبس أطفال درعا وتعذيبهم كان الشرارة الأولى لاندلاع الثورة السورية، التي على أثرها دُمرت سوريا، وتحوّل الملايين من سكانها إلى لاجئين، إضافة إلى مئات الألوف من القتلى والجرجى، فهل يتعظ فراعنة مصر الجدد لا سيما والاحتجاجات ضدهم مستمرة منذ شهور؟!