لم يكن تعيين الدكتورة ريما خلف مديرا تنفيذيا لمؤسسة محمد بن راشد للتنمية مفاجأة كبيرة. فمن يعرف دبي وكيف تفكر قياداتها يدرك أن سر نجاح هذه التجربة العربية الخلاقة هو الجرأة والإبداع ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب بغض النظر عن كل الملابسات والمتغيرات والمعطيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.لقد تعودت دبي بقيادة الشيخ محمد بن راشد على أن تتحرك أولا وتسبق الجميع، وتترك الآخرين دائما يتساءلون. فهناك دائما من يصنع الحدث، وهناك من يراقب الحدث، وهناك من يصحو متأخرا ويتساءل: "ماذا حدث؟"، أما من يرفض الواقع ولا يفهم المتوقع فإنه لا يصحو أبدا بل يواجه الحادث بالرفض ويقول متثائبا: "لماذا حدث؟".
وأتذكر هنا ذلك الموقف القيادي الكبير الذي رواه سمو الشيخ محمد بن راشد في مقدمة كتابه: "رؤيتي" حيث أشار إلى قصة مؤثرة لم ينبته إليها ولم يدركها معظم من تناولوا الكتاب بالعرض والتحليل. ففي آخر صفحة من فصل "القيادة" وعلى الصفحة 58 كتب يقول:
"أجد القيادة من أصعب المواضيع شرحا وتفسيرا، ولا أملك إلا أن أنهي الفصل بالقول نفسه. لكن قبل ذلك سأقص على القارىء الكريم هذه القصة بلا تعليق وسأترك له مهمة تفسيرها كما يشاء:
العادة في الكليات العسكرية الدولية أن تبدأ زيارة القياديين الكبار بتفتيش الطابور، والعادة كما يعرف القادة العسكريون في كل مكان أن يحاول قائد الكلية أو المعسكر المزار كسب حظوة القيادي الكبير وإثبات همته ونشاطه بأن يجد حجة للتعليق على أي شيء، كأن يقول لمن في الطابور: فلان!ارفع رأسك!، أو فلان: أشدد نفسك!، أو فلان : أصلح ياقتك!، وهكذا.
وكنت واقفا" أمام الطابور عندما اقترب مسؤول الكلية مني وقال: فلان مرشح! فقلت: نعم سيدي. فقال: أنت لا تقف وسط الكلية فخذ بعض الخطوت إلى اليسار. فقلت: نعم سيدي! ثم صحت بزملائي: كليِة! خطوتين إلى اليمين خذ!، أي أنني حركت الكتيبة كلها بينما بقيت في مكاني فاستاء مسؤول الكلية من تصرفي لكن القيادي الذي جاء لإلقاء محاضرة سر. وقبل بداية المحاضرة كنت وزملائي نتناول القهوة فاقترب القيادي المحاضر وسألني: لماذا حركت كل من كان خلفك ولم تتحرك انت؟ ففكرت في السبب لكنني لم أجد آنذاك تفسيرا" لتصرفي فقلت: لا أعرف يا سيدي. أحيانا أظن أنني رأيت على أرض الكلية علامة يخطها قائد الطابور بالطباشير ليسترشد بها إلى مكانه لكني لست متأكدا أن هذا هو التفسير الوحيد." انتهت رواية الشيخ محمد بن راشد للواقعة.
وربما لا يكون هناك تفسير وحيد وأكيد، لكن علم القيادة الجديد بدأ يسلط الضوء على جوانب كانت خفية في علوم الإدارة والنفس والأحياء. فقد ثبت علميا بأن القيادة صناعة ووراثة. أي أن فيها جانبا مكتسبا يمكن تعليمه، لكن أساسها الأقوى موروث ويصعب تلقينه.
وكما جاء في كتاب (نجم البحر والعنكبوت) فقد افترض العلماء أن المخ يتكون من بنية هرمية لأن أدمغتنا تحتاج إلى تسلسل قيادي. وظنوا – خطأ - أن مركز القيادة يكمن في جذع المخ، ثم تبين أنها تتوزع وتتكون من اتصال جمل متعددة من الخلايا العصبية.
فالتفسير الأرجح للتصرف المؤثر والمعبر للشيخ محمد بن راشد، الذي جعله يبادر إلى تحريك الكتيبة وهو ثابت في مكانه، هو أن بذور القيادة كانت متجذرة في شخصيته وراسخة في وعيه منذ ريعان شبابه. وهذا الموقف يكاد يلخص النجاح العظيم لتجربة دبي التنموية العالمية. والقائد يفهم، أو لنقل: "يأخذ خطوتين إلى اليمين".
ويعتبر تعيين الدكتورة خلف في هذا المنصب التنموي والقيادي خطوة ثالثة إلى اليمين. فكل إنسان في حركيته وتقدمه وانطلاقه يواجه دائما ثلاثة احتمالات للتحرك: فإما أن يتجه إلى أعلى أو إلى أسفل، وإما إلى اليمن أو اليسار، وإما إلى الأمام أو الخلف. وقد عودتنا دبي على مدى العقود الثلاثة المنصرمة على فعالية الحركة الدؤوب إلى (أعلى) وها هي أبراجها ترتفع، وإلى (الأمام) وها هي تتقدم لتساهم في التنمية البشرية والثقافية والإدارية العربية، وإلى (اليمين) وها هي تأخذ منحى إيجابيا متحررا وتنطلق لما فيه خير الشعوب العربية وانفتاحيتها وتنافسيتها وإبداعها وتفكيرها الدائم والدائب والمطلق خارج كل صناديق النظريات والممارسات العالمية التقليدية.
وها هو برج جديد وفريد يواصل ارتفاعه في دبي، وسيتجاوز في علوه وشهوقه برج دبي المعروف، وأعني به (مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للتنمية العربية)، وهي برج ثقافي عالي ومتسامي الأهداف والغايات. وجل ما نتمناه هو أن تولي الدكتورة ريما خلف التنمية القيادية والإدارية في الوطن العربي اهتمامها الأول.
chairman@edara.com