بثت قناة «الجزيرة» الوثائقية،حلقة من سلسلة «باعة متجولون» والحلقة كانت عن عمان القديمة،والحلقة رائعة،فقد قدمت عدة شخصيات،من عمان،ما بين بائع الصحف،وذاك الذي يبيع الحلويات،وثالث يبيع الكتب،ورابع يبيع الخضراوات.
«ابوكايد» احدى شخصيات الحلقة،وهو من شخصيات عمان القديمة،بائع للصحف،طوال ستين عاما،يحكي لك،عن ذكرياته في وسط البلد،يبيع الصحف منذ الفجر،في الصيف والشتاء،تحت المطر والثلج،وهو ايضا يستدعي عمان القديمة،وكيف كانت تعرف بعضها البعض،لان المدن التي لا تنسى،تلك المدن التي ترتبط في الذاكرة بالاشخاص وبحوادث تترك أثرا بالغاً؟!
تلك كانت ميزة،عمان القديمة،في الصور،بسيطة،حتى المسجد الحسيني،قبل إعماره،في صور قديمة جدا،كان ُمهدماً،ووسط البلد،عبارة عن سيل ماء،تم سقفه لاحقاً،ليصبح سقف السيل.
وسط البلد،شاهد على ملايين الوجوه،الفقيرة،او تلك التي نالها الثراء،وعمان ملاذ،فقد عرفها الشركس والشيشان وابناء الشام ونابلس والقدس،والارمن،فوق صهيل خيل ابناء قبيلة بني صخر، والبلقاويين، وكانت تشي منذ زمن،بكونها أما،ليست كالامهات.
تعرف ان المكان مرتبط بالاسماء،من بائع الفستق الذي رحل،الى مطعم هاشم،وصولا الى ابي كايد وصحفه،ونبيل دحدح وحلوياته،مرورا بغيرهم من شخوص،وشهرزاد ومشوياته،ثم بائع الكعك الذي بقي رسمه فقط في الذاكرة.
لو سألت كثيرين عما يعنيه وسط البلد لهم،لحدثك بعضهم عن طفولته،ولروى البعض الاخر لك ذكريات جلوسه في المقاهي،ولحكى آخر رواياته عن البيع والتسوق في وسط البلد.
على سيرة المقاهي،كنا نهرب الى مقهى السنترال دوما،مقابل المسجد الحسيني،وحرب التسعين في العراق انتهت لتوها،وفي المقهى يساريون وشعراء وفنانون،وعاطلون عن العمل،وانصاف عباقرة.
بعضهم من العراق،يجلس لساعات طويلة،يتأمل عبر شرفة المقهى،العراق،من بعيد،ولاحقا تم اغلاق هذه الشرفة،مثلما تم اغلاق كل شرفات العراق،وانسداد الافق،كان قدرا قوميا.
في شخصية «ابوكايد» حكاية الحبر والورق،وهو يعرف قصة الطباعة قبل غيره،فالصحف تبقى مثل خلية النحل،وما ان ينهي آخر محرر وضع لمساته على الصفحات،حتى تنساب الصحيفة الى المطبعة لطباعتها،فيما المدن غارقة في عتمتها.
غير ان الصحف لا تنام،والموزعون على ابوابها،ينتظرون الصحيفة،يتلقفونها بشغف بالغ،قبل الفجر بساعتين،وكأنها وليدهم الاول.
لا يمكن لأي شخص ان يعمل في هذه المهنة،صحفياً او محرراً او كاتباً او موزعاً او فنياً او في اقسام الطباعة،الا اذا كان يحبها فعلا،فهي مهنة متعبة،مهنة تجمع بين الشقاء واللذة.
على وجه ابي كايد ترتسم الاخبار واللغة والمواقف،ويجتمع كل هذا في عنوان واحد على وجه الرجل،الصبر البالغ،على الحياة.
لولا «ابو كايد» ومثله آلاف الاسماء التي كانت شريكة في هذه المهنة،او قل الصناعة،لما بقيت هذه المهنة،وهي مهنة جائرة في بعض أوجهها،لانها تقدم لك الصف الاول،في منتجها،وتحبس الاف الاسماء في الظلال،ممن لهم الفضل فيها،وفي انتاج الصحيفة،لكنها ايضا مثل كل مهن الدنيا،تصنع صفا اولا،ولا يكون اولا الا لوجود صف ثان وثالث ورابع.
مهنة صانع الورق تاريخياً،كانت تسمى «الوراق» وان جاز التعبير هنا،فإن أبا كايد يستحق لقب الوراق،لا لكونه يصنع الورق بيديه،بل لانه احد الذين يديمون صناعة الورق،مهنة وحرفا ورسالة وقداسة.
ثم ان المدن مثل المرأة،كثيراً ما تحبها،دون ان تعرف السبب!.