أمكنة ورموز تذكارية وقيم حضارية ذات عمق زمني تطالها أيدٍ عبثية مخربة تعمل بمبدأ العشوائية تبتغي الثراء السريع لتحقيق مخملية العيش ,هواة مغامرون رسموا أحلامهم بعالم من السراب على حساب رقينا الحضاري وعمقنا التاريخي ...انهم خفافيش الليل ,سرٌاق الحضارة, مشوهيه التاريخ ,امتهنوا الاعتداء وتخريب التراث باحثين عن دفائن ذهبية لا تتعدى كونها خرافات وأساطير شعبية بعيدة عن الواقع ,ضاربين بكل القوانين والأنظمة عرض الحائط ومعتقدين بأن هذا البحث والتعدي هو حق من حقوقهم ,وغير آبهين بالتشريعات ومتجاهلين لحقيقة مفادها أن هذا التراث هو ملك الأمة ولا يحق لأي فرد التصرف به وتتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل.
لذلك لا بد من التصدي لهذه الفئة الخارجة على القانون ,والتي تعدت المستوى الفردي لتصل إلى مستوى جماعات منظمة اقرب إلى العصابات يتم تمويلهم في أحيان كثيرة من قبل أصحاب رؤوس أموال ورجالات أعمال غير منتمين لهويتهم.
ومهما كانت الظروف المحركة لهذه الجماعات والدافعة لها للقيام بمثل هذه الاعتداءات من ضيق في العيش الناتج عن أوضاع اقتصادية لا تلبي متطلباتهم الحياتية اليومية ,وانهم بعملهم هذا يصبحون قاب قوسين أو أدنى من سعة العيش ورغدها ,في ظل وجود مواقع الاعتداء في مناطق نائية بعيدة عن العين والمراقبة ,وغياب الضمير ووازع الانتماء حيث تتكون لديهم إغراءات دافعة لمثل هذه السلوكيات غير المسئولة.
أنني اعلق الشيء الكثير على ضعف الوعي لدى الإنسان الأردني حول أهمية تراثه ,إذ نلحظ وبشكل جلي نظرة اللامبالاة الواضحة على المستوى الشعبي لما يحيط بنا من كنوز ثقافية وتراثية تشمل المواقع والمعالم البارزة الأثرية والقصور.
وبالنظرة لضخامة وفخامة تلك المخلفات ,فاننا نجد أن الأفكار المستقرة في عقل وفكر المجتمع حول هذه المقدرات أفكارا سطحية محدودة ,انعكست في سلوكهم وطريقة تفكيرهم ,وهنا لا استثني حتى تلك الفئة ذات الوعي الثقافي بنظرتها غير المنصفة لهذا الموروث والتي تبلورت على أساس أنها مخلفات من الماضي ويجب أن تقتصر دراستها على الاكاديمين المختصين بهذا المضمار ,ناسين أو متناسين بان الأردن هو البوتقة التي انصهرت وتفاعلت به ثقافات الحضارات والشعوب المختلفة منفردا بخصوصية واضحة رغم اشتراكه واندماجه في تراث الأمة ,ووجوده بين أول وأقدم حضارتين عرفهما التاريخ ,حضارة مابين النهرين بالعراق والنيل في مصر ما اكسبه الغنى التاريخي والموروث العريق والرقي الحضاري الذي افتقرت إليه كبريات الدول وأعظمها في تاريخنا المعاصر.
لذلك لابد من العمل على ربط المجتمع بتراثه وحضارته القديمة باعتبارها الرابط الأهم بين الحاضر والماضي ,والحفاظ عليه للاجيال القادمة من خلال زيادة الإدراك لقيمة هذا التراث والتأكيد على التواصل بين ثقافة الأجداد والأحفاد ,فهي المصدر الرئيسي للقيم الثقافية والتاريخية, إلى جانب كونها رافدا أساسيا من روافد الدخل القومي وموردا للفكر وعمقا للهوية وارثا اجتماعيا ورقيا حضاريا.
فالهوية القومية والوطنية والحضارية هي بمثابة الدرع الواقي من التلاشي والضياع ,ولا يمكن لأي شعب أن يثبت نفسه في عالم اليوم بدون العودة إلى موروثة ومنه تكون الانطلاقة إلى المستقبل.
وبما أن الإنسان الأردني هو وحده القادر على مكافحة هذه الظاهرة ومعني بالقضاء عليها من خلال حسه الواعي وإدراكه العميق بقيمة تراثه ,فانه يجب ان يصار إلى نشوء علاقة حميمية يحفظ من خلالها هذا الإرث العظيم ,ولا بد ايضا من مخاطبته من قبل كوادر مؤهلة قادرة على محاكاة أبناء المجتمع من مختلف الفئات العمرية والخلفيات الاجتماعية والثقافية ,وبث الوعي الأثري لديهم من خلال برامج مدروسة وممنهجة تتخللها سلسلة من الأنشطة الثقافية التي تقدم وجبات مركزة في هذا المضمار.
وعلينا ان لا نتجاهل فئة طلبة المدارس أصحاب التأثير الكبير في بيئاتهم ومجتمعاتهم من خلال إدراج مناهج دراسية تعنى بالوعي الأثري يرافقها تسيير رحلات منتظمة إلى تلك الموروثات العظيمة من جهة والتركيز على امن هذه المواقع وحمايتها من جهة اخرى وتفعيل دور القائمين على حراستها بصورة اكبر عن طريق عمل زيارات ميدانية بصورة متكررة للمواقع الأثرية خاصة البعيدة عن أعين الناس وإعداد تقارير دورية عن كل ما يستجد عليها من تحولات ورصد التغيرات التي تطرأ على الموقع من قبل من تسول له نفسه بالتعدي والتخريب.
ولا بد كذلك من تفعيل وتعزيز دور الضبط القضائي وإنشاء ما يسمى بشرطة الآثار والعمل على إيجاد مندوب عن الآثار في منافذنا البرية والبحرية والجوية للحيلولة دون تهريب أي من مقدراتنا للخارج بطرق غير قانونية وهنا لابد من الإشارة إلى أن دائرة الآثار العامة قد حرصت على مكافحة هذه الظاهرة بطرق شتى كان على رأسها استحداث قانون يجرم كل من يقوم بإعمال تنقيب عن اللقى أو يتاجر أو يساعد أو يشارك بذلك دون الحصول على ترخيص مسبق من قبل الجهات المعنية.
إذ تنص المادة (26) من قانون الآثار لسنة 1988م والمعدل في العام 2002م على حبس كل من يخالف القانون مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة مالية لاتقل عن ثلاثة آلاف دينار.
ومع ذلك اعتقد أننا بحاجة لإيجاد مزيد من القوانين الضابطة والرادعة لمثل هذه الأفعال والتصرفات اللامسئولة, علنا نصل لبتر هذه الظاهرة من جذورها والقضاء عليها للوصول إلى مصافي الدول التي ترتجي التحضر من خلال انتمائها لماضيها واحترامها لثقافتها وتاريخها.