من المشاهد المتكرّرة التي مررتُ بها في ما أحضره من اجتماعات أو أعمال لجان أو لقاءات لأهل الفكر والعلم والثقافة أن يبدأ المتحدّث حديثه أو مداخلته بالاعتذار عن عدم إجادته العربية الفصحى ظنّاً منه أنّ الحديث بالعربيّة الفصيحة هو شأن المتخصّصين باللغة العربيّة وآدابها فقط، وأنه لا علاقة لأصحاب سائر التخصّصات بها، وأنّه ليس مطلوباً منهم أن يجيدوا الحديث بها.ولئن كان مثل هذا الاعتذار مقبولاً- على مضض- من العوامّ فإنه مرفوض قطعاً من أهل الثقافة والفكر والعلم وحملة الشهادات الجامعية الدنيا والعليا الذين يفترض فيهم أن يكونوا من المدافعين عن هويّة الأمّة ولغتها والحريصين على نشرها وإشاعة استخدامها في مختلف مجالات الحياة.
غير أن المشكلة لا تتوقف عند حدّ الاعتذار عن عدم إجادة العربية الفصيحة، وإنّما تتعدّاها لتصل إلى حدّ التباهي بذلك والسخرية ممّن يجيدون الحديث بالفصحى والتعالي عليهم، وعدم التورّع عن الحديث بلغة غير عربيّة حتّى في أوساط العامّة الذين لا يعرفون غير لغتهم الأمّ.
المشكلة أكبر من ذلك كلّه وأكبر من مشكلة ثنائيّة العاميّة والفصحى، إنّها مشكلة شيوع التخاطب بالعاميّة في الأوساط التي لا ينبغي لها التخاطب بغير الفصحى: في المدرسة والجامعة والمسجد والإذاعة والتلفزيون والمنتديات والاتحادات ومؤسّسات الدولة المختلفة وغيرها ممّا يرقى إلى مستواها، فهذه كلّها أماكن يجب أن تحترم لغة الأمّة وهويتها، لأنّ رسالة هذه المؤسسات جميعاً تقوم على المحافظة على شخصية الأمّة وهوّيتها ومنجزها الفكري والحضاري وبناء الإنسان المنتمي لها، فلا يجوز لها أن تخلّ بأهم أداة من أدوات بناء الإنسان وبناء تفكيره، وهي اللغة.
إنّ ضرورة التشبّث باللغة الفصيحة تنبع من كون اللغة العربية تعاني من ازدواجية ملموسة بين الفصيحة والعاميّة أكثر مما تعانيه اللغات العالمية الأخرى، ممّا يجعل الفصيحة مهدّدة بغلبة العاميّة عليها، كما أنّ تطوّر فكر الأمّة وإبداعها لا يمكن التعبير عنه بغير اللغة الفصحى، ولذلك فإنّ المحافظة على اللغة الفصيحة ضروريةٌ لتطوير الفكر والإبداع لدى أبناء الأمّة.
وأخيراً فإنّ ممّا يشين العالم والمتعلم والمفكر والمثقف والمسؤول مهما كانت درجة مسؤوليته أن يظهر على شاشة التلفزيون أو أمام جمهرة من الناس وهو يتلعثم ولا يحسن التعبير عن أفكاره بلغته الأمّ، وكذلك ممّا يشين أستاذ الجامعة أو المدرسة أن يقف أمام طلاّبه وهو يتحدث بعاميّة مبتذلة قد تثير سخرية طلبته منه وعدم احترامهم له. فلا عذر لأحدٍ من هؤلاء جميعاً في كونه لا يحسن التعامل مع لغته الأمّ، فإنه لو قرأ مقدار كتاب واحدٍ كلّ شهر لتغلّب على كلّ ما يعانيه من عقدة الحديث بالفصحى.
salahjarrar@hotmail.com