إذا صح قول رئيس بلدية السلط وبعض وجهاء المدينة بأن الموقوفين على خلفية أحداث جامعة البلقاء التطبيقية ليسوا هم من حمل السلاح وأطلق النار، فليتفضل هؤلاء بكشف هوية المسلحين، ومساعدة قوات الأمن على تقديمهم للقضاء.
لقد كان المسلحون والملثمون، وعلى مدار يومين، "يتمخترون" في محيط الجامعة، مدججين بأسلحتهم النارية والبيضاء، والمؤكد أن الجمهور العريض من الطلبة وسكان المدينة وجوارها، يعرفونهم واحدا واحدا. ومن قبل الأهالي؛ في السجال الدائر، لم يأت أحد على سيرتهم ولا على مسؤولياتهم.
من يصدق أن شابا لم يبلغ العشرين يغادر منزل ذويه حاملا سلاحا ناريا من دون معرفتهم. مَنْ مَنْ الأهل لا يميز ابنه وسط المقنّعين؟
في كل المشاجرات الدامية التي شهدتها جامعات الكرك والمفرق ومعان والسلط، وقف الخبراء والمحللون والكتّاب على تحليل البيئة السياسية والجامعية التي أدت إلى نشوء ظاهرة العنف الجامعي، وكالوا الانتقادات لسياسات التعليم والمؤسسات الأمنية ودورها في إشاعة ثقافة الهويات الفرعية؛ وكلها انتقادات في محلها. لكن أحدا من هؤلاء لم يسأل بالقدر الكافي عن حال الحواضن الاجتماعية التي يتربى فيها الطلبة. هناك، يتشبع الجيل الجديد بقيم العصبية العشائرية والمناطقية، ويتلقى كل يوم دروسا في الولاء للعائلة والعشيرة، ويتشرب بالكراهية للآخرين من أبناء بلده.
الحواضن الاجتماعية الأردنية اليوم في أردأ حال؛ تستدعي في سلوكها القيم البدائية، وتعيد إنتاج ثقافة الغزوات بأدوات العصر الحديث. والنتيجة: أجيال من الشباب المغرورين بعشائريتهم وهوياتهم المناطقية والقبلية.
المدارس والجامعات ما هي إلا ساحات لاستعراض قوة ونفوذ أبناء هذه العشيرة أو القبيلة؛ رابطة الدم لا العلم هي التي يجتمع حولها جيل من المهووسين بالولاء العنصري لقيم فات عليها الزمن.
الأسر تنازلت عن دورها في التربية، وتركت الأمر للعشيرة لكي تصوغ ثقافة الأبناء. المهم أن يدخل الفتى الأغر الجامعة ويتخرج. وبمجرد أن يلتحق بجامعة قريبة من البيت طبعا، يصبح رجلا فذّا خارج نطاق المساءلة والمراقبة؛ يحمل مسدسا أو "بومبكشن" أو سكينا، ليس مهماً. وإذا ما جاء نبأ تورطه في مشاجرة، فالوجهاء كفيلون بتخريجه منها.
مَنْ مِنْ أهالي المتورطين بعنف جامعة البلقاء يتجرأ اليوم على إبلاغ السلطات عن ابنه؟ وهل تجرأ الأهالي في الكرك أو المفرق على تحمّل مسؤولياتهم من قبل؟
جلهم يسارعون إلى تبرئة ساحة أبنائهم. من هم إذن الذين كانوا في الشوارع يلوحون بالمسدسات ويطلقون النار؛ هبطوا من السماء مثلا؟!
الساسة ورجال الأعمال "كبار العشيرة"، ضالعون في المشكلة. كلما وقعت حادثة في جامعة أو كلية، يتداعون لاجتماعات طارئة. وانطلاقا من الولاء للعشيرة، يتحركون لرفع الضيم عن أبنائها؛ يُسخّرون كل نفوذهم لتجنيب المتورطين في العنف المحاكمة أمام القضاء. في معظم الأحيان ينجحون؛ إذ يندر أن يردهم مسؤول أردني خائبين. حتى في يوم العطلة الرسمية يمكن أن يصدر قرار الإفراج عن المتهمين، وبذلك نطوي الصفحة!
كنا من جيل عاش زمن الأحكام العرفية ومصادرة الحريات والهيمنة الأمنية على الحياة الجامعية؛ زمن لم تكن فيه أدوات المعرفة والعلم متاحة كما هي اليوم. غالبية الطلبة كانوا يحضرون من بيئة قروية مغلقة، لكن لم يحضروا معهم أبدا ثقافاتهم وقيمهم الضيقة. لم نكن نميز بين الكركي والسلطي، فكيف بين أبناء البلقاء أو غيرها من المحافظات؟!
كنا على وشك الولوج في عصر الدولة المدنية ونحن في ظل الأحكام العرفية؛ ما الذي حصل حتى عدنا إلى الوراء مائة عام؟!
fahed.khitan@alghad.jo
الغد